كنت من ضمن الباحثين المشاركين في ملتقى أمن وسلامة الآثار والمنشآت السياحية الذي عقد بتنظيم قامت به جامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية بالاشتراك مع إمارة منطقة مكة المكرمة ممثلة بمحافظة الطائف، والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والمنظمة العربية للسياحة.
وفي اليوم الأخير لي بمحافظة الطائف، وهو مساء يوم السبت الموافق 23-10-1436هـ، كنت على موعد مع الأستاذ إبراهيم بن هاشم بن أحمد رئيس فريق العلاقات العامة المكلف من قبل محافظة الطائف بتحقيق وتسهيل حركة ورغبات المشاركين في المؤتمر، فخابرني الأستاذ إبراهيم بأنه سوف يحضر لنقلي إلى المطار عند الساعة الخامسة من مساء يوم السبت الموافق 23-10-1436هـ، وكان موعد إقلاع رحلتي الساعة العاشرة والثلث من ذلك المساء، وفعلاً حضر الأستاذ إبراهيم عند الساعة الخامسة من مساء يوم السبت، واقترح عليّ أن نقوم بجولة على آثار مدينة الطائف وبعدها ينقلني إلى المطار فوافقت ممتناً له.
كانت بداية الرحلة مع طريق متعرج عبر سلسلة من الجبال تخترقها أودية ضيقة لا زالت تحتفظ بآثار سكانها القدماء. كان المنظر خلاباً يجمع بين خضرة النبات الطبيعي، وخضرة النبات المزروع، والمساكن القديمة التي شيّدت على عروض الجبال دون أي تسوية. يعكس المنزل البساطة السائدة في حياة القدماء، وتظهر المنازل متراصة بعضها إلى بعض بارتفاع أقل من ارتفاع منازل اليوم، ومداخل ضيقة وغير مرتفعة، واستخدمت أغصان الأشجار الكبيرة والمتوسطة في تسقيفها. كما تشتمل الآثار أيضاً على المدرجات الجبلية، وهي عبارة عن حبال من الجدران المتعاقبة عمودياً ربما أنها تمثل مدرجات زراعية أو أنها كانت وسيلة لكسر اندفاع مياه السيول. ومن الآثار التي شاهدنا السدود القصيرة التي تشيد بشكل متوالي في الأودية الضيقة، والمرجح أنها كانت تهدف إلى حجز مياه السيول للاستفادة منها وزيادة منسوب المياه الجوفية. كما شاهدنا مجموعة من الآبار متناثرة في الأودية ولا تزال تحتفظ بمبانيها العلوية التي كانت تستخدم لسحب المياه على السواني.
من تلك المنطقة الجبلية الجميلة نقلنا الأستاذ إبراهيم إلى سد عكرمة الشهير في وادي وج الذي طالما قرأت عنه بالكتب وتمنيت مشاهدته. وقبل لقائي بالأستاذ إبراهيم كنت أعتقد أنه نسب إلى عكرمة بن أبي جهل ولكن الأستاذ إبراهيم أوضح لي بأن هذا السد سابق لظهور الإسلام، وأنه ينسب إلى شخص اسمه عكرمة يعتقد بعض المؤرخين بأنه الجد الأعلى لسكان الطائف القدماء، وهناك من الباحثين من ينسبه إلى عكرمة مولى عبدالله بن العباس رضي الله عنه الصحابي الجليل.
ومن سد عكرمة انتقلنا إلى مدينة الطائف القديمة، أي المدينة الواقعة داخل الأسوار التي حاصرها جيش المسلمين بعد معركة حنين. لم يعد من المدينة إلا أجزاء من أسوارها والقليل جداً من المباني الحجرية والطينية. ومن ذلك المكان انتقلنا إلى مسجد الكوع وهو من أقدم المساجد بالطائف وسمي بالكوع لأنه أقيم في المكان الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم فأركى كوعه على صخرة فلانت، ثم انتقلنا إلى مسجد عداس، أول من آمن من أهل الطائف، وهو الشخص الذي كان يناول الرسول صلى الله عليه وسلم العنب بعد رفض أهل الطائف دعوته ورميه بالحجارة. ومن هناك انتقلنا إلى مسجد الصحابي الجليل عبدالله بن عباس المبني بالحجارة ولا زال يحتفظ بشكله الأصلي حتى الآن.
بعدها نقلنا الأستاذ إبراهيم إلى مصنع ماء الورد، وشرح لنا كيف يصنع ماء الورد الطائفي من ملايين الورود وأدخلنا في المصنع وأتاح لنا فرصة مشاهدة الأدوات التقليدية المستخدمة في الغلي والتقطير والتكثيف ثم استخلاص ماء الورد.
بعد ذلك نقلنا إلى تحفة معمارية جميلة جداً ذكر لنا بأنها دار أو قصر (الكاتب) الذي كان مسؤولاً عن المالية في عهد الملك عبدالعزيز، وهو بحق يتميز بفن معماري فريد، ويتكون من ثلاثة طوابق مبنية بكتل حجرية ونوافذ خشبية جميلة وحلي معمارية جميلة زينت بها نهايات المبنى العلوية، واستخدمت الألوان وطيف الألوان لصبغ الواجهات الخارجية للمبنى.
ومن قصر الكاتب انتقلنا إلى قصر آخر عبارة عن تحفة معمارية نادرة، وذكر لنا أنه أنشئ عام 1327هـ من قبل أحد الأشراف. ولا يزال القصر متماسكاً كما كان في أول أيامه، وهو مشيداً بكتل الحجارة التي غلفت بمادة تشبه الجرانيت ذات لون أصفر. وكتب على أعلى مدخله بيتين من الشعر تفيد أن مؤسسه لم يشيده طلباً للخلود، فيعرف أنه فانٍ والقصر سوف يعود إلى غيره، ولكنه شيده ليسكن فيه، ثم يورثه لمن يسكن فيه. بعد ذلك نقلنا الأستاذ إبراهيم إلى مضيفة شعبية حديثة تناولنا فيها القهوة العربية والشاهي الأحمر في الأواني القديمة، ثم أدينا صلاة المغرب في أحد المساجد داخل الطائف القديمة وبعد أداء الصلاة انطلقنا إلى المطار وكنا فيه عند الساعة الثامنة مساء ننتظر رحلتنا بعد ساعتين وعشرين دقيقة، وكانت الرحلة في موعدها المجدول ولله الحمد، ووصلنا لمدينة الرياض عند الساعة الثانية عشرة من ذلك المساء.
أجزم أن جميع تلك الآثار التي ذكرت تحتاج إلى لفتة من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، بل تقدم على غيرها، أما لماذا؟ فلأنها آثار تقع في مدينة سياحية من الطراز الأول، والآثار هي مادة السياحة الأولى هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فما ذكرت من الآثار القديمة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأحداث النبوة وزمن الخلفاء الراشدين، وبعضها يعكس الحالة في عهد الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه - وهو عهد يمثل بداية التطور في بلادنا. ولهذان السببان أعتقد أن آثار الطائف يجب أن تكون أولوية للترميم والتجهيز والتهيئة السياحية، فسد عكرمة من أقدم السدود في بلادنا، ومسجد عبدالله بن عباس من أقدم المساجد التي نعرف، وسور الطائف من الأسوار التي عايشت ما قبل الإسلام.
فهذه المعالم إن ذهبت لن تعود؛ إلى جانب أنها تقع داخل مدينة الطائف وبين مساكنها الحديثة فيسهل على كل المصطافين والسواح زيارتها دون الابتعاد عن المراكز الحضارية، لذا فالمحافظة عليها وتأهيلها سياحياً مسألة ملحة.
وفي نهاية هذا التقرير لابد من أن أشيد بالتعامل الراقي والاحترافي والأخوي العاكس للإحساس بالمسؤولية الذي لقيناه من الأستاذ إبراهيم بن هاشم بن أحمد رئيس اللجنة التنظيمية المكلفة من قبل محافظة الطائف لرعاية ضيوف المؤتمر، فقد كان كريماً بوقته، وماله، وعلمه إلى جانب ابتسامته الدائمة التي تجعلك تحس بأنك في بيتك وبين أفراد أسرتك فجزاه الله عنا خيراً ووفقه الله وأصلح له الذرية والنية.
أما محافظة الطائف وعلى رأسها المحافظ الأستاذ فهد بن عبدالعزيز بن معمر؛ فكانت متابعة بشكل دائم لضيوف المؤتمر، راعية لأحوالهم، محققة لمتطلباتهم، فلم نقابل بأي تقصير. وقد كنت آخر من غادر من المشاركين وكان الأستاذ إبراهيم بن هاشم بن أحمد على تواصل مستمر معي، مطمئناً ليّ بأن الحجز مؤكد، والرحلة في وقتها، والإقامة في الفندق قابلة للتمديد في حالة التأخر وعلى حساب المحافظة. وفي كلمة واحدة أو اثنتين أقول: واجهنا كرماً حاتمياً، وتعاملاً راقياً واحترافياً، ورعاية متكاملة، فالشكر لله ثم لولاة أمرنا.
بقلم/ أ.د. عبدالعزيز بن سعود الغزي - جامعة الملك سعود، كلية السياحة والآثار