لغة الضاد في فضائها المؤسسي! ">
تكاثرت المؤسسات الثقافية المحلية وقلّت أفعالها، أو انعدمت لأن كثيراً منها يعمل بلا أنظمة، ولا يحمل رؤية مستقبلية، ولا تشغله أهداف معلنة متفق عليها، ولا ينجز تشريعات إدارية تضمن بقاءه وديمومة أدائه.
وقبل سنوات قليلة قرأت خبراً عن تأسيس مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، وبكل أسف، ظننت أنه سيشكل إضافة إلى قطاعات ثقافية تخرج وسط بهرجة إعلامية وضجيج احتفالي ثم تلوذ بالصمت ويأكلها الغياب، أو قد يقدم عطاءً ضعيفاً قياساً بالطموحات المعقودة عليه.. وساحتنا الثقافية غنية بتجارب من هذا النوع دون استفادة من العثرات وأشكال الفشل.
خيّب المركز ظني هذه المرة، وأدهشني منجزه المتنوع وثبات بنيته المؤسساتية التي تقوم عليها عقليات علمية متمكّنة، وتدير مساراته التنفيذية كوادر تآخى العلم لديها مع القدرة الإدارية والوعي بمتطلبات بناء عمل ينهل من خزائن تراثه في هذا المجال، ويستجيب للعصر وتحدياته، وينظر بمهارة نحو المستقبل.
ست سنوات فقط مرّت على تأسيس المركز لكنه اليوم يقدم أعمالاً تفوق عمره الزمني، وتبرهن على ريادة مختلفة قلَّ وجودها.. هذه السنوات في قطاعات أخرى تذهب، أحياناً، لوضع التشريعات، وتقنين الأنظمة، وإنشاء المباني، وجلب الكفاءات وإبرام التعاقدات، ويصاحب ذلك بعض الصراعات والاختلافات، ويعلو دخان كثيف قبل العمل، لكن المركز استغل هذه الفترة في بناء فريد على الصعيدين الإداري والمعرفي، والأخير هو الذي يهمنا فقد وقّع اتفاقات مع المؤسسات النظيرة والمنظمات الدولية، وأسس قواعد المعلومات وفق الحاجة الراهنة، وأعلن جائزة ثمينة في مجالها، وعني ببرمجيات الحاسب الآلي وتطبيقاته وتأثيرها على اللغة العربية، وأصدر مجلة علمية محكّمة، ويخطط لإصدار أخرى، وعزز الاحتفالات باليوم العالمي للغة العربية، وفتح علاقات رائدة مع المراكز المختصة باللغة العربية في بعض دول العالم وزارها أيضاً ليدعم أداءها، ويطل المركز اليوم عبر واجهة إلكترونية تضمن حضوره الأسهل والأشمل.
قدم المركز خلال عمره القصير أكثر من سبعة وخمسين إصداراً مطبوعاً متخصصاً شملت قضايا اللغة العربية ومؤسساتها وتحدياتها.. وهذا مصدر فخر، ولعله يكون النواة لمجمع اللغة العربية الذي تمناه كثيرون في المملكة.
عند إعلان «وزارة الثقافة والإعلام» عام 2003م تمنيت أن تنضوي كل المؤسسات الثقافية والمعرفية تحت مظلة الوزارة لضمان التخطيط المشترك والاستفادة من الموارد واتحاد الرؤى فالعمل الجماعي خير وأبقى، وقد خابت ظنوني فالمؤسسات الناجحة اليوم تعمل بعيداً عن مظلة الوزارة ولا تعرف أروقتها ودهاليزها الضبابية، وخير شاهد على ذلك مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ودارة الملك عبد العزيز، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، وأخيراً سوق عكاظ ومركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية.
التحدي الأكبر الذي تواجهه اللغة العربية ينطلق عبر تقنيات الاتصال وثورة المعلومات ومواقع التواصل والمؤمل أن يستغل المركز هذه الوسائط ومعطياتها فيؤسس له منصات علمية افتراضية فيها، ويمول البرمجيات والتطبيقات الإلكترونية، كما يتجه إلى الوسائط التقليدية فيقدم رسائله عبر الصحف المعروفة، ويدعم إعداد وتقديم البرامج اللغوية في القناة الثقافية وغيرها، ويمد يد العون إلى المؤسسات التربوية ليكون «بيت خبرة» لها في هذا المجال، ويعيد إلى الواجهة البرامج التربوية اللغوية التي قدمتها منذ عقود مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك.. وضمان تحقيق رسالة المركز تتطلب سنداً إعلامياً قوياً ينطلق من أروقته أو عبر تحالف مع بيوت الخبرة الإعلامية الكبرى.
تحية تقدير وإجلال للمركز ومجلس أمنائه وأمينه العام المثقف والواعي والإداري الناجح الدكتور عبدالله بن صالح الوشمي.
- محمد المنقري