أعتقد أن أنسب دخول مبسّط هنا هو الدخول من باب «التفريق»، أي أننا في البداية بحاجة إلى عدّة تفريقات.
التفريق الأول هو بين ديمقراطيتين، الأولى الديمقراطية بوجهها السياسي الصرف، باعتبارها صورة من صور الحكم، وهو الحكم الذي يرتبط بحكم الشعب مثلا، وبفصل السلطات،
وبالقيام بانتخابات مختلفة في فترات معينة ثابتة من حيث الزمن الفاصل بينها، حيث يكون الحسم دائمًا وأبدًا بموجب مبدأ حسم الأكثرية، أي وفق الأصوات الأعلى في صناديق الانتخاب.
والثانية هي الديمقراطية بمفهومها الأوسع، أي بوصفها فلسفة شاملة وطريقة حياة إن صح تعبيري، ففي الدولة والمجتمع اللذين تكون فيهما الديمقراطية أسلوب حياة وفلسفة مسيطرة بشكل عام، يسود الاعتراف بقيمة التسامح مثلا، وبمبدأ التعددية، وبحقوق الإنسان والمواطن، وبأهمية التعايش، ويرتفع سقف الحرية الفكرية وغيرها من الحريات إلى أعلى المستويات، وأمور كثيرة مشابهة أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها، وتعمل الدولة على تطبيق هذه المبادئ والقيم وحمايتها.
وبعد التفريق السابق، يجب التفريق أيضًا بين الدول الموصوفة بالديمقراطية؛ لأنها تختلف في توجهاتها، وأبرز تلك التوجهات توجهان ديمقراطيان شائعان تتبعهما الدول، أولهما: التوجه الديمقراطي الليبرالي، الذي يعتبر الفرد العنصر الأساسي في المجتمع دائمًا وأبدًا، فللفرد وحريته قيمة عظمى في هذا التوجه، حيث يرى أنصاره أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات الفرد قبل أيِّ شيء، بكل أنواعها السياسية وغير السياسية، فليس لهذه الحرية حدود قوية ولا قيود ضيقة على الفرد غالبًا، ولا ينبغي التعرض لحريات الفرد الشخصية، إلا إذا أساء إلى غيره من الناس فقط، فهنا يجب ردعه بيد القانون.
ففي هذا التوجه الليبرالي، تجب وتتم إتاحة الفرصة أمام الفرد لتحقيق حريته بالمعنى التام لتحقيق ذاته، وبذلك لا تتصادم الدولة مع حريات الأفراد ولا تمسها، وهذا قد يؤدي في نظر الكثيرين إلى بعد السلطة عن كثير مما يدور في الساحات الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، والحياتية المختلفة. ولا شك أن هذا التوجه يتناغم مع بعض أفكار «الفلسفة الوجودية» التي كتبتُ عنها سابقاً سلسلة مقالات مفصّلة.
وبحسب هذا التوجه الديمقراطي الليبرالي، فإن للمساواة أهمية كبيرة فقط على الصعيد السياسي غالبًا، حيث يكون لكل مواطن صوت في (العمليات الانتخابية المختلفة)، أما على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي وغيرهما، فإن الدولة لا تهتم بالتطبيق الدقيق لمبادئ الديمقراطية، بقدر اهتمامها بتطبيقها على الصعيد السياسي. أي أن الدولة في هذا التوجه تهتم بالديمقراطية السياسية؛ ولكنها لا تتدخل بشكل واضح في حريات الفرد، فلا تسعى مثلا إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية من أجل تعزيز المبدأ الديمقراطي الاجتماعي الذي يوجب المساواة وتكافؤ جميع الفرص بين الأفراد في المجتمع.
أما التوجه الثاني، فهو الديمقراطي الاجتماعي :وبحسب هذا التوجه لا تهتم الدولة بالشق السياسي فقط؛ بل يمتد اهتمامها ويتوسع، فتتحمل مسؤولية المجتمع ككل من مختلف النواحي، فهذا التوجه يطمح إلى تطبيق مبادئ الديمقراطية ليس فقط على الصعيد السياسي، وإنما أيضاً على صعيد المجالات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها في الدولة والمجتمع.
فالتوجه الثاني أشمل وأوسع، وأكثر ارتباطاً بالديمقراطية بوصفها ثقافة عامة وفلسفة شاملة لكل نواحي الحياة، ففيه تأكيد على مركزية وأهمية المساواة في النظام الديمقراطي، ليس فقط بالمفهوم الشكلي المعروف من حيث معاملة الجميع بالتساوي سياسيًا، وإنما أيضا بالمفهوم الجوهري الأعم لتحقيق مبدأ المساواة في المجتمع – ومن ذلك تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وبموجب هذا التوجه تتدخل الدولة وتمس حريات الفرد أحياناً، وتتصادم معها -بحدود معينة- من أجل تقليص الفوارق والفجوات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الفجوات بين الناس، سعيًا لترسيخ العدل والمساواة بينهم.
وزبدة القول هي أن القاسم المشترك بين التوجهين يكمن في قبول مبدأ الحرية ورفع الاهتمام بحقوق الأفراد خاصة على الصعيد السياسي.. أما وجه الاختلاف بينهما، فيظهر بالنظر إلى مدى المساواة المنشودة في المجتمع في مسألة مدى تدخل الدولة في المجالات غير السياسية، كالمجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحياتية المختلفة.
أما التفريق الثالث، فهو التفريق بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية غير المباشرة.. فالمباشرة تعني ببساطة إشراك كلِّ قادر مؤهل من الشعب مباشرة في ممارسة السلطة والأعمال السياسية ويتم هذا بكيفيات متعددة تختلف باختلاف المجتمعات.. أما غير المباشرة، فهي أن يختار الشعب ممثلين عنه يمارسون السلطة نيابة عن الشرائح المختلفة من الناس.. وبين الديمقراطيتين المباشرة وغير المباشرة تظهر أحيانًا في الدول ديمقراطية وسط، وهي ما قد تصح تسميته بالديمقراطية شبه المباشرة، وهذه الديمقراطية خليطٌ من الصورتين السابقتين، وتختلف أشكالها وآلياتها أيضاً باختلاف الأزمنة والأمكنة والظروف والأحوال.
أما التفريق الأخير، فهو تفريق أو تقسيم ثلاثي، وهو: الديمقراطية السياسية، والديمقراطية الاقتصادية، والديمقراطية المجتمعية العامة.. فالسياسية -باختصار لا يخلو من اختزال- تدور دائمًا وأبدًا حول (الانتخابات) فيما ظهر لي، أي أن يتمكن الناس من التصويت بحرية لاختيار مرشحهم السياسي في ظل تنظيم سري عادل أمين لصناديق الاقتراع.
فهي التي تقرر سيادة الشعب، وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس، وتخضع فيها السلطة إلى رقابة رأي عام حر، له وسائل قانونية تضمن إذعان الحكومة له.
أما الديمقراطية الاقتصادية، فهي في رأيي تتقاطع وتنسجم كثيرًا مع بعض أفكار «الاشتراكية»، ولأهميتها سأسترسل قليلاً، فهي فلسفة اقتصادية ذات بعد اجتماعي تطالب بتحويل سلطة صنع القرار من يد كبار الملاك إلى مجموعة أكبر من الشرائح، من العمال، والموزعين، والكادحين، وصغار المساهمين، وأبناء الأحياء الشعبية، وبقية العامة..
فأنصار هذه الديمقراطية الاقتصادية، يرون أن التوسع في الملكيات الخاصة الحديثة يُخضع المصلحة والخيرات العامة لسيطرة الربح الخاص أو الفردي, ويمنع أيَّ صورة من صور المشاركة الجماعية والديمقراطية في النشاط الاقتصادي. فهم ضد أن تكون وسائل الإنتاج ملكًا لفئة من الأفراد أو الشركات, ويعترضون على النظام الرأسمالي, الذي يوفر الحريات الاقتصادية دون قيود ويتيح إمكانية التملك الخاص المطلق, فيرفض أتباع الديمقراطية الاقتصادية هذا، بحجة أن المستهلك في النظام الرأسمالي لا يشارك في إدارة الشركات ولا يتحكم بتحديد ملكية وسائل الإنتاج أو بتوزيع الدخل العائد منها، وفي هذا استغلال للعمال والطبقات الكادحة والمسحوقة من الشعب.
أما الديمقراطية المجتمعية العامة، فتشمل كلَّ ما في المجتمع من بقية النواحي الخارجة عن الإطارين السياسي والاقتصادي، وهي ببساطة تقوم على مثلث (العدل والحرية والمساواة) في كل شيء، ومن أهم ذلك المساواة في الفرص المختلفة، والعدل بين الناس أمام القضاء والقانون في جميع شؤونهم.
وبعد تأمل ما سبق من التقسيمات ننتقل إلى قولهم السائد في الفلسفة السياسية: «الديمقراطية كلمة معناها أن يحكم الشعب نفسه»، وهو قول قائم على أن الديمقراطية في أصلها كلمة مشتقة من كلمتين إغريقيتين، الأولى هي كلمة «Demos» وقد وجدتُ لها عدة ترجمات أبرزها الناس، أو الشعب، أو عامة الناس، أو عامة الشعب، وما شابه.. والثانية هي كلمة «Cratia» وتعني الحكم، أو السلطة، أو السيادة، وما شابه.. فيكون معنى الديمقراطية لغة (حكم الشعب)، ومنه تفرَّع القول بأن تعريفها هو: أن يحكم الشعب نفسه، فالديمقراطية تسمية تطلق على كل الحكومات التي يختارها الشعب بالانتخابات وصناديق الاقتراع وما شابه، دون استثناء؛ بغض النظر عن الفروقات الموجودة بينها.
وللديمقراطية ارتباط كبير بفلاسفة التربية، فالديمقراطية لا تتطور ولا تستقر في المجتمعات الجاهلة المتخلفة الضعيفة تربويًا، وإنما في المجتمعات المتعلمة، ذات الحظ الوفير من الرقي والتهذيب والتربية والمعرفة، ولذلك اعتبر «أفلاطون» الديمقراطية كارثة -أحيانًا- إذا أفرط فيها، فهو يرى أن الديمقراطية تظهر بشكل جميل عندما نتحدث عن المبادئ الأساسية لها، أي عندما نطالب بها باعتبارها قائمة على المساواة بين الناس في الحقوق السياسية، كحق الحصول على المنصب السياسي وتقرير السياسة أو السياسات العامة. ولكنها تنقلب إلى دمار وخراب جسيمين، إذا طُبّقت والشعب غير جاهز أو غير مؤهل لها، خاصة من الناحيتين التربوية والتعليمية، التي ركّز عليها أفلاطون كثيرًا.
فالشعوب الغوغائية أو الفوضوية غير الناضجة، أو ضعيفة الوعي.. أو التي تحتاج إلى تأهيل وإعداد تعليمي وتربوي لرفع مستواها المعرفي ودرجات نضجها وخبراتها.. هذه الشعوب لا تصلح لها الديمقراطية في رأي «أفلاطون» وأمثاله؛ لأن بحر الجماهير الهمجية الجاهلة الهائجة سيغرق سفينة الدولة، التي لن تصمد أمام أمواجه المتلاطمة، في حال فتح لهذه الشعوب المجال الديمقراطي بلا ضوابط.
أعتقدُ أن أفلاطون كان يريد إرسال رسالة مفادها: الديمقراطية جميلة؛ ولكنها لا تصلح لشعب لا يفهم.. لا تصلح لشعوب لا تتقن إلا لغات الضوضاء والغوغاء والعجيج والضجيج.. إنها لا تناسب إلا الشعوب الفاهمة المتحضرة الراقية المثقفة، القادرة على وضع خطط الحكم واختيار أفضل العناصر لإدارة الدولة.. إنها لا تناسب إلا هذه المجتمعات المتقدمة المهذبة فقط؛ ولكن دون إفراط فيها أيضًا.
لقد حذر أفلاطون من تمكين الجماهير من العامة الدهماء والرعاع، خاصة في المجتمعات الفوضوية المتخلفة.. لقد حذر من تمكينهم من العبث بالسياسة بنزواتهم وغباواتهم الساذجة؛ لأنهم ينخدعون بسهولة في الاختيار، وتحكمهم نزوات غوغائية وأهواء ومصالح ورغبات خاطئة مختلفة عند التصويت، تجعلهم يصوتون لأشخاص لا يصلحون للسياسة.
فينجح المخادعون والممثلون والمحتالون في جمع أعداد كبيرة من الأصوات من هؤلاء البسطاء المخدوعين، رغم أنهم عاجزون ويفتقدون القدرة على إدارة المدينة أو الولاية بعدل وحكمة، والنتيجة الخطرة التي ستؤول إليها الدولة في هذه الحالة، هي انتصار حكم «الأوتوقراطية» أي حكم الطغيان والجبروت والفردية والتسلط الخاضع لولاء الرعية، بلا دستور واضح ولا قانون بيّن!.
وهذا يذهب بذهني إلى موضوع مهم وهو (حقوق الأقليات) الذي قد أكتب عنه بإسهاب لاحقًا؛ فما أقبح الديمقراطية التي تتسلط بها شريحة الأكثرية الجاهلة الفوضوية غير المهذبة على غيرها من شرائح الشعب الأقل عددًا وصوتاً ونفوذاً، وما أبشع الديمقراطية التي تُهضم فيها حقوق الأقليات. نتوقف هنا، ونواصل الحديث عن (الديمقراطية الصحيحة) وعن (علاقة الديمقراطية بالفلسفة)، وعن نقاط أخرى، في مقالة السبت القادم إن شاء الله.
- وائل القاسم