إن جميع خلق الله يقوم على عنصرين رئيسيين هما الروح والمادة. وقد يظهر لنا هذان العنصران جميعا أحيانا وقد يظهر لنا أحدهما. فالإنسان مثلا نرى الروح والمادة ظاهرة فيه. فنحن نرى الصلاة والصيام والعبادات الروحية منتشرة بين بني البشر على اختلاف ألوانهم ومشاربهم. وهم كذلك في الجانب المادي يرونه ابتداء في أنفسهم وفي الماديات المختلفة من حولهم. أما في فئة الجمادات فنحن نرى الجانب المادي ظاهرا للعيان يراه كل مبصر ويحسه كل أحد. أما الجانب الروحي فهو يغيب عن إدراكنا وقدراتنا لكن الله أثبته في كتابه حين قال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وهناك فئة ثالثة تشمل الملائكة والجن ومن في حكمهم وهؤلاء نعلم الجانب الروحي لهم لكننا نجهل الجانب المادي، والله يقول {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} فأقر الله لهم الاستماع مع عدم إمكانية رؤيتهم.
وقد عجبت من اقتران ذكر الصلاة والزكاة في القرآن الكريم فلا تكاد تذكر الصلاة إلا ومعها أختها الزكاة. كما قال القحطاني في نونيته (فصلاتنا وزكاتنا أختان). والحكمة في هذا الاقتران هو أن العبادة تنقسم إلى قسمين كما في تكوين الإنسان إلى طاقتين؛ طاقة روحية وطاقة مادية، فذكرهما معاً كان لزاماً أن تشملهما العبادة كي لا يختل توازنهما في العبد.
وحين يذكر الله الصلاة فإن المقصود منها العبادة الروحية التي تنبع من القلب. ومن يؤديها ببدنه وقلبه مشغول بغيرها فهو يقوم بحركات رياضية، لأن الصلاة إقامة بالروح والعمل لا بالحركات كما يفعل كثير من المصلين، والمنافقون كانوا يقومون بمبناها لا معناها ولذلك يقول الرسول الفصيح في الحديث الصحيح (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ).
وأما الزكاة فإنها تشمل المادة بشقيها المادة الحسية كشهوات النفس و العينية كالقناطير المقنطرة قال الله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} فذكر ربنا كلمة «زُيِّنَ» أي أنها من طبيعتهم وليست من صنعهم واختيارهم فلذلك جاء العلاج في تربية النفس من لدن من فطر الناس جميعا بفطرته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.
إذا خلق الله الإنسان وجعل فيه طاقتين إحداهما روحية تتمثل في الصلاة التي هي اتصال مع الله وانعزال عن المادة، فهذه العبادة من طبيعة الروح، لأن الصلاة هي إحساس داخلي مغلف بالحركات البشرية. ولذلك كانت تزكية هذه الروح بأنسب ما يقابلها وهي الصلاة. أما الطاقة الأخرى فهي المادة التي هي أيضا في أصلها اتصال مع جنسها، فمن حين يولد الشخص وهو متصل بثدي أمه، ثم هو متصل بالمادة عن طريق الملبس والمأكل، ثم إن هذه المادة لو لم تكن متجددة متكررة لما استمرت الحياة في هذه الدنيا. ومن هنا نفهم أن من أخص خصائص هذه المادة هو أنها ذات حركة دائرية، تدخل على الشخص من غيره، وتخرج منه إلى غيره. ولذلك إنه خلال هذه الحركة الدائرية جاء الأمر في إيداع جزء من هذه المادة في مكان نحن موقنون برعايته لممتلكاتنا وهو عالم الغيب. فهذه الحركة مستمرة باستمرار حركة المادة في الإنسان. فوجب تنقيتها بالزكاة وإعطاء أصحاب الحقوق منها حقهم {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}.
ولكي لا ترجح إحدى المادتين المكونتين للإنسان بأحد كفتي الميزان كانت العبادة موازنة لحياة العبد لا تحيد به عن صراط الله المستقيم.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي