عبد العزيز صالح الصالح ">
رغم ما يطرأ على الأعمال التراثية من تطور وتغير وتبديل يهدف الارتقاء بهذه الأعمال نحو الأفضل إلا أنها لم تحقق الأهداف المطلوبة، فإن هناك شيئاً يظل عائقاً لهؤلاء المنتسبين لهذه الأعمال التراثَّية، والمتأمل في هذا الأمر يجد أن كل جيل يرى أنه أفضل من الجيل الذي يليه، وهكذا وهذا الأمر يخالف سنن الحياة المعروفة.
فلا شيء يمكن أن يكون جيله السابق خيراً من اللاحق إلا في هذا المخلوق العجيب... المرء فهذا الأمر ليس غريباً ولا جديداً.
ولكن ماذا نقول في هذا الصدد بخصوص هذا الابتعاد فكان في الزمن الماضي الآباء ينقلون إلى ابنائهم خلاصة ثقافتهم وتجاربهم الشَّخصيَّة وموروثاتهم الفكريَّة التي تتفق وتختلف مع موروثاتهم في قليل أو كثير مما سمح للأجيال الحالية أن تسمع وتتعلم بحضارة فكريَّة متميزة يتفقون ويختلفون... في السابق كان الأبناء يخرجون بأفكار وتجارب من خلال ما يدار بينهم وبين ذويهم من حوار ونقاش مطول في مجالسهم ومنتدياتهم وأماكنهم الخاصَّة والعامَّة عن بعض الرؤى والأفكار وكان فارق السن شاسعاً بينهم مما يضفي على الحوار من ابجديات الوقار والمهابة والاحترام والتقدير وسعة البال والصدر والإنصات للجميع بدون استثناء فكانت هذه اللقاءات وهذه الحوارات تعتبر جسراً في نظر الأبناء يمرون عبره إلى تجارب الآخرين بأسلوب جميل ومن باب الصدف أن الحظ ساقني إلى الالتقاء مع عدد من أصحاب المواهب التراثَّية في منتجع الأستاذ أبو مشعل الاحمدي بمحافظة الدِّرعيَّة.
وكان تفكيري وذهني مستغرقاً في أقوال هؤلاء وما يعانونه من عدة أمور - فعادة المتحدثون ينوعون أحاديثهم من الأفضل إلى الأفضل ولو من غير شعور وذلك من أجل إشغال أذهانهم وأفكارهم، ومهما بعد هؤلاء المتحدثون عن موضوع الحوار فسرعان ما يعودون إليه بسرعة، لقد استرسلت الحديث مع هؤلاء وعن طموحهم وتطلعاتهم وأمانيهم في هذا المجال فتركت لكل واحد منهم يدلي بدلوه بكل حرية وشفافية ومصداقية عالية بعيدة كل البعد عن كافة أبجديات التملق والتزلف والتعالي والغرور فهم دائماً يتابعون غالباً الأعمال التراثَّية التي تخرج على السطح في أي مكان من بلادنا المترامية الأطراف.
حيث إن الأعمال المتكرِّرة والمتشابهة لا تحرك فيهم ساكناً ولا تحيي فيهم الهمة والنشاط، فهم يبحثون دائماً عن الأفضل والأحسن والأجدر فهم يلمسون في أعمالهم متعة وحرصاً واهتماماً وغذاء اجتماعياً لتغير أحوالهم الاجتماعية فلو سار هؤلاء في طريقهم وأبدعوا تأقلموا مع الزمن لكان خيراً لهم ولمستقبلهم.
حيث إنهم يبذلون قصارى جهدهم في تسهيل كافة العوائق التي لا شأن لهم بخلقها لكنهم بشتى الطرق يحاولون أن يخلخلوا ويفككوا كافة الطرق المغلقة من أجل شق طريقهم في مجال الأعمال التراثَّية التي تصنع وجهاً للأعمال التراثَّية في هذا الوطن المعطاء بشكل أكثر تطوراً وإبداعاً وتصاعداً وجمالا ورونقاً. ولا تكاد هذه الاعمال أن تظهر على السطح بدون عوائق تحد من إبرازها بالشكل المطلوب فهي تبوح بأسرار أصحاب المهن التراثية وحدهم - فالفنان التراثي ضمير المجتمع الحي يتفاعل مع كل ما يدور في أحشاء هذا المجتمع ويبدع في غالب الأحوال - بأسرار المجتمع والأمة والبلاد بأكمله ويعبر عما يريد الجميع.
ناهيك عن وعورة الطرق التي يسلكها أصحاب تلك المهن حتى يتمكنوا من الحصول على دعم مالي ومعنوي من قبل الجهات المعنية بهذا التراث العريق، فعلى مستوى أصحاب الموهبة فإنهم يعانون من الترهل في كثير من المفاصل حيث إنهم يلوحون بأيديهم بين الحين والآخر.
بجميع أعمالهم ومعاناتهم التي تؤدي بهم إلى حفر عميقة ودهاليز معتمة في حالة فقدان الأمل والطموح إلى جانب ابجديات التشجيع والدعم المادي والمعنوي من قبل الجهات المعنية فتصبح بواباتهم وعناوينهم واضحة الاعيان حينما يطلعون على شيء من معاناتهم فتنكسر في تلك الحالة بقايا هيبتهم الهشة كانوا يديرونها منذ وقت طويل فتتهاوى جميع الاحتمالات ببرائه من اسقام الذات والناس.
فعلاً ما تكون المفردات اللغوية والأدبية والثقافية والرؤية الفلسفية سائدة في تلك الأعمال التراثية حيث إن المرء يشاهد بأم عينيه كافَّة الأعمال التراثية ويسمع لكافة القصص والحكايات والروايات التي تكون غالباً محملة بالوعي الدائم والمستمر ومثقلة بشتى المفردات اللغوية المتعددة التي تبعد المرء عن حالة الاستقصاء الفكري لهذه الفئة من أصحاب تلك المواهب التراثية حيث إنهم يواجهون قسوة ومعاناة تجاه تجاربهم وأعمالهم المتعدِّدة فهم يقفون أوفياء إلى بيئاتهم البسيطة وحياتهم العادية بدون تعب أو ملل أو كلل.
فإن هذا الموضوع الذي طرحته عبر هذه الاسطر القليلة أرى أنه لا يلاقي استحسان بعض من القراء فإنني أحاول أن اعيد تخطيط الطريقة التي تكون أكثر ترابطاً وتلاحماً فإن الحلم الذي أتمناه أن يجسد حقيقة في بلادنا لأن قوالب الإبداع تخنق وتقتل عبقرية التطوير والاختراع والابتكار، فالاختراع وليد الفكرة المترابطة بل هو وليد العلوم المتداخلة بفطرتها.
- الرياض