مثقفون يطلقون برامج نوعية ثقافية مواكبة لعكاظ التاريخ والمستقبل ">
الثقافية - محمد هليل الرويلي:
ما إن أعلنت أمانة سوق عكاظ عن إطلاق نسختها التاسعة في السابع والعشرين من شهر شوال القادم حتى بدأت عجلة الحركة الثقافية والأدبية في البلاد بالسير قُدمًا في كافة المجالات النقدية والبحثية وعقد الندوات وورش العمل، وذلك مواكبة لهذه التظاهرة الضخمة التي يرعاها نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة رئيس اللجنة الإشرافية لسوق عكاظ الأمير خالد الفيصل، وذلك بحضور عدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء والوزراء والأدباء والمثقفين والشعراء والإعلاميين من داخل المملكة وخارجها.
كما أفرد عددٌ من الكتّاب والمهتمين احتفاءً بشخصية هذا العام التاريخية لبيد بن ربيعة أحد أهم شعراء المعلقات وشاعر الكهولة والحكمة وتطرق الكتّاب والشعراء للبردة التي يحتفى بها سنويًا في هذا «الكرنفال الثقافي» الضخم «المجلة الثقافية» ومن منطلق واجبها الوطني والمهني والتاريخي أعدت هذا التحقيق لرصد ومتابعة آراء المختصين والمهتمين، فكانت هذه الجولة التي بدأناها مع أمين سوق عكاظ الدكتور جريدي المنصوري الذي أوضح أن للرؤية الأدبية العريقة التي أمر ببلورتها وتأسيسها وتشكيلها مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة رئيس اللجنة الإشرافية لسوق عكاظ الأمير خالد الفيصل الأثر على نجاح سوق عكاظ التاريخي منذ نسخته الأولى وحتى عامه التاسع حتى أضحت هذه السوق هوية ثقافية لبلادنا والبلاد العربية لما للمملكة من مكانة عالية مرموقة في الأوساط الثقافية، إذ عرفت منذ فجر التاريخ بالعلم والشعر والبيان، وأكد المنصوري أن سوق عكاظ ليس ماضيًا وحسب إنما هو تراث متجدد ومستقبل مشرق واعد بالثقافة بكافة منحنياتها فياض بمسارات وفضاءات الشعر والرواية والمساجلات والندوات والأمسيات والموروث والتي تقدم بشكل حضاري تعكس الوجهة المستقبلية لتطور وتقدم بلادنا، كما يواصل سوق عكاظ أداء رسالته في دعم الثقافة والأدب والفنون معطياً فسحة كبيرة للمسرح باعتباره مشروعاً ثقافياً وقيمة أدبية حيث أقرّت أمانة سوق عكاظ هذا العام تقديم عرض مسرحي جديد بعنوان «سُراة الشعر والكهولة» يتناول الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة العامري والمعروف بأنه أحد رموز الشعر العربي ومبدع واحدة من أشهر المعلقات.
من جهتها قالت مؤسسة قروب حقول الحرف الثقافي المشرفة التربوية بتعليم جدة القاصّة فاطمة سعيد الغامدي إن لعكاظ امتداداً حضارياً وثقافياً متجدداً زاد بريقه في السنوات الأخيرة لما يقدمه السوق سنوياً منذ انطلاقته (1428هـ - 2007م) من برامج عدة فكرية وأدبية وثقافية وعلمية وتراثية تعبر عن رؤية سوق عكاظ وأهدافه والمتمثلة في مد الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ويدعم برنامج فعاليات سوق عكاظ عدة وزارات وهيئات حكومية، كما يقدم سوق عكاظ سنوياً لزائريه معارض متخصصة ومجموعة من المحاضرات والندوات والأمسيات الثقافية والأدبية والعلمية بمشاركة نخبة من المثقفين والأدباء والمفكرين والشعراء السعوديين والعرب وأمسيات شعرية لشعراء سعوديين وعرب وحوارات مع مجموعة من المؤلفين لعرض تجاربهم في التأليف والكتابة وكل هذا التمازج والتماهي الثقافي يصب في روافد الحركة الأدبية السعودية، وقد حرصنا مع نخبة من النقاد والشعراء والإعلاميين على إقامة ندوة ثقافية استمرت لمدة يومين في هذا الشهر المبارك حول الشخصية التاريخية لهذا العام «لبيد بن ربيعة» كما تحدث الأعضاء عن البردة التي يلبسها الأمير الأديب خالد الفيصل كل عام لشاعر عكاظ فتحمل مدلولات تقديرية لشاعر يطلق عليه شاعر عكاظ وجائزة أخرى لشاعر الشباب هذه الجوائز شجعت الشعراء على السعي حثيثًا لشرف نيل الجائزة من سموه الكريم.
أما عضو النادي الأدبي بالرياض الشاعر عبد الإله المالك الجعيب فيقول وأنا بينَ يدي (معلقة لبيد بن ربيعة العامري) شَعرت أنني أُوغل في عوالم أعرفها وتعرفني تطِل المشاعر من شرفَات الأبيات ومن ثنايا القصيد متلحفة بجمال اللغة وجرأة التّعبير صاغتها أنامل شاعر يمثّل حقبة فارقة في تاريخ الأدب العربي ككل وليس الشعر وحده. إذ كان الشعر في عهده - ولا يزال - ديوان العرب.. إذ ينتمي الشّاعر المخضرم المتميز لبيد بن ربيعة إلى واحد من أهمِّ أجيال الشّعر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام وهو جيل يمكن أن نطلق عليه جِيل الفحول المخضرمين. ويمثل شعر لبيد - حسب تصوري - ومضات نافذة من رؤية الشّاعرِ وتجاربه الإنسانية وقصة تطورِ الفكر الحضاري للمجتمعِ العربي والتّحولات بل الطّفرات الدينية والاجتماعية والثقافية حيثُ ارتبطت كثيرًا بمرحلة بزوغ فجر الإسلام وانعكاس ذلك كلّه في شكل تقلبات اجتماعيّة وثقافيّة طرحت إعادة رسم الهويّة الشعريّة العربيّة والعلاقة بالآخر.. ونجد ذلك على نحو مباشرٍ في قصيدته (المعلقة والتي كتبها على البحر الكامل ميميّة الرويّ) والتي بدأها - كعادة العرب - بذكر الأطلال ثم عرج على ذكر الخمرة كأنفس ما يقدم من مشروب ثم ذكر الحبيبة وختمها بصفات العرب المجيدة الكرم والفخر، ولقد حوت على علو كعب الشاعريّة وكانت عالية السبك وتمتاز بحسن الصور والأخيلة وبجمال الوصف وتضمنت القليل من الحكمة.
نورد منها:
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا
بِمِنَىً تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا
فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا
خَلَقَاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُهَا
فيما أعربت المشرفة التربوية بتعليم الطائف الشاعرة أميرة محمد صبياني عن شكرها لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل على رعايته السنوية لهذه السوق التاريخية والتي أصبحت اليوم بمثابة البصمة الثقافية لبلادنا والهوية المستقبلية لجيل من الشعراء والنقاد والباحثين والمختصين، كما هنأت أصحاب البردة في الأعوام الماضية وهذا العام مؤكدة في الوقت نفسه أن هذه الجائزة وسام عز وشرف يسعى لنيله والحصول عليه جهابذة الشعراء في الوطن العربي، وأضافت صبياني: ومن هنا من الطائف صرح التاريخ المتجذر في آفاق الأمجاد الخالدة التي امتدت من بلاد ثقيف وحتى السند والهند.. ومن مرتفعات الطائف التي تلفعت برقة الضباب وتعطرت بأريج ورود الطائف وتشنفت مسامعها بصدى معلقات الشعراء حتى ضربت لهم الجميلةُ بين جنباتها ناديًا خِصبًا تتلاقح فيه الرؤى وتتناغم فيه المشاعر فتلتقي فيها مع صفاء الشعر وصدق العاطفة وعمق التصوير فحولة الشعر ومعلقاتُ زعمائه وسادة فصحائه الذين أثْرَوا المكان والزمان بقصائدهم الخالدة وبديوانهم الشعري المكين الذي حُفظ من العصر الجاهلي وترسخت جذوره في جزيرة العرب وأطراف الدنيا لأنه فعلًا ديوان اللغة ومرآة الحياة البدوية المجيدة الكريمة لتلك الأمة العربية التي اختار الإسلام موطنها ولغتها وشمائلها مهدًا لدينه القويم.
من هذا البلد الكريم انطلق النور وجاء ليقرر ما عند العرب من أخلاق وشمائل وجاء نبي الرحمة العظيم ليشهد على صدق ومروءة الكثير من شعراء الجاهلية ومنهم شاعر عكاظ لهذا العام (لبيد بن ربيعة فارس هوازن) الذي أطلق رسول الهدى والصدق محمد صلى الله عليه وسلم شهادته في بيته الذي قال فيه:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلٌ
وكل نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
قال عليه الصلاة والسلام: أصدق كلمة قالها شاعر.. وكان لبيد أحدث أصحاب المعلقات عصرًا وآخرهم موتًا. وشعره مثال للفخامة والقوة والمتانة والبداوة فتراه فخم العبارة قوي اللفظ قليل الحشو مزدانًا بالحكمة العالية والموعظة الحسنة.. ولبيد من أحسن الجاهليين تصرفاً في الرثاء وفخره قوي ينم عن شرفه وعزته ومجده وحسبه العريق.
ويُؤكد الشاعر إبراهيم زولي أن اختيار الشخصية المسرحية التاريخية لهذا العام إنما يدل على المضيّ قدماً في استحضار هذه الأسماء التي تضرب بجذورها عميقاً في تراثنا العربي هذه القامات الشعرية التي صنعت المجد الذهبي للقصيدة العربية انطلاقاً من الجزيرة العربية ومن خلال هذا السوق الذي تمّ استعادة وهجه من مدينة الطائف، وتحديداً من المكان الذي وقف عليه شعراء المعلقات لينشدوا أعظم إبداعاتهم تلك الإبداعات التي تخطّتْ حدود المكان والزمان، لتظلّ خالدة عبر كلّ هذه الأجيال.. ولبيد بن ربيعة واحد من هؤلاء الخالدين وهو صاحب المعلقة الأشهر والتي يقول مطلعها:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها
حتى قيل إن الشاعر النابغة الذبياني، حين سمعها، قال له: اذهب فأنت أشعر العرب.
هذا الشاعر الذي عمّر طويلاً، قال في بيته المشهور، شاكياً طول الحياة، وسأم السنين:
ولقد مللتُ من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد.
والذي يمعن النظر في البيت يجد أن لبيد قال «وسؤال هذا الناس» ولم يعط إشارة للجمع، كما تعارف النحاة، بسبب أن السؤال كان مكرّراً من الكلّ، فاستحقّ أن يخاطب الجمع بإشارة المفرد، وذلك في تصوّري، أول كسر واعٍ للأنساق النحوية التقليدية من قبل شاعر عربي.
هذا الشاعر الذي ينتمي لقبيلة هوازن، ها هو يحضر في تكريم استثنائي، قريباً من قبيلته، ومرابع قومه، وكأن التاريخ يستعيد ألقه، في سيناريو كرنفالي، لا يتقنه إلا شاعر وفنان اسمه خالد الفيصل، يقف خلف هذه التظاهرة الثقافية، تظاهرة، حتماً ستعيد الشعر والثقافة إلى وطنها الأول الجزيرة العربية، وكأن بوصلة القصيدة تستعيد جهتها الأصلية، وهو ما نلحظه، في البردة التي يخلعها سموه على شاعر عكاظ، تلك البردة التي كرّمت شعراء من العالم العربي، من المحيط للخليج، ولم تنزو على محلّية ضيّقة، أمثال شوقي بزيع من لبنان، والمنصف الوهايبي من تونس، ومن قبلهما صاحب التضاريس الشاعر السعودي محمد الثبيتي.
واختتم الدكتور أيمن خميس الناقد المختص في الأدب والبلاغة قوله عن لبيد:
أسلم لبيد وترك الشعر فلم يقل بعد إسلامه إلا:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالاً
ولعله ترك الشعر لأنه وجد في القرآن ما يغنيه عنه، أو لأنه خاف أن يختلط القرآن بالشعر في ذهنه أو لأنه رأى أن الشعر سيصرفه عن التأمل والتدبر فيبدو أنه بإسلامه كان كمن وجد عين ماء بعد طول عناء عطش في صحراء مقفرة.. مستشهدًا في ذلك بقول الإمام الشافعي حينما اعتذر عن قول الشعر:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد.