عبدالعزيز محمد الروضان ">
إننا اليوم نعيش سجالا فكريا يُثار بين الفينة والأخرى، وقد تبنى هذا السجال فريقان - فريق اتسمت أطروحاته بالصبغة الإسلامية واستقى هذا الفريق أفكاره من النصوص الشرعية، وفريق آخر اتسمت أطروحاته بالصبغة الليبرالية واستقاها من الفكر الغربي الذي يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى، وخلال هذا السجال الفكري بين هذين الفريقين لم نخرج بعد بنتيجة نتبنى أفكارها ونتائجها، وهذا يعود إلى عدة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر:
السبب الأول: إن الفريق الذي تبنى الفكر الغربي منهجا أخذ هذا الفكر دون غربلة وتمحيص، ولم يعرضه على المحك الشرعي وميزانه الدقيق، فهذا الفريق أخذ ما عند الغرب بقضه وقضيضه وعجره وبجره، ومن ثم كانت الأفكار التي ينادي بها أحيانا تتسم بخطى عرجاء لكون هذا الفريق قد أخذ هذا الفكر بنظرة مسطحة، أو بمعنى أقرب أخذه أخذا يتسم بالقشور دون أخذ اللب، فالليبرالية وما سواها من المصطلحات التي شاع ذكرها عند الغرب كالعلمانية والديمقراطية لهذه المصطلحات إبان نشوئها معنى عميقا قد غاب عن مفكرينا، فلو مثلا أردنا أن نتبيّن ما معنى الليبرالية عند المفكرين الغربيين في أول نشوئها وقبل أن تميع معانيها السامية لوجدناها غير ذلك المعنى الذي ينادي به المفكرون الليبراليون اليوم!
إن الليبرالية عند الغرب إبان ظهورها الأول والحقيقي تنادي بنصرة العمال على أرباب الأعمال بعد أن مارس أرباب العمل الظلم على العمال، وبعد أن تنصلت الثروة عن مبادئها السامية، وكذلك مفهوم العلمانية عند الغرب له معان سامية غير ما ينادي به مفكرو العالم العربي اليوم، فالعلمانية عند الغرب كان لنشوئها أسباب ومبررات جوهرية، وهي أنه لما كان رجال الكنيسة في الغرب جدفوا وهرطقوا بالدين المسيحي وتنكبوا الصراط السوي فيها تبرم المجتمع الغربي من هذا التجديف، فكان رجال الكنيسة في الغرب قد تنصلوا من الأفكار التي تتبناها الديانة المسيحية الصحيحة، فحارب رجال الكنيسة كل فكر لا يخدم توجهاتهم الشخصية فحاربوا العلم والعلماء وأغرى رجال الكنيسة آنذاك مجتمعاتهم محاربة رجال العلم، حتى إن علماء الغرب آنذاك صاروا يجعلون بنات أفكارهم النيرة حبيسة الأدراج وتحت وسائد نومهم، خوفا من بطش رجال الكنيسة، ولما ضاق علماء الغرب ذرعا والمجتمع الغربي من رجال الدين حاربوا الفكر الديني المحرف الذي يتبناه رجال الكنيسة والذي هو دين لا يتماشى مع نص وروح الديانة المسيحية الصحيحة، ومن ثم نادى علماء الغرب بالعلمانية التي تتبنى العلم المادي الصرف البعيد عن تلك الأفكار الدينية التي جانبها الصواب عند رجال الكنيسة، ومن ثم ظهر مصطلح العلمانية عند الغرب. أليس لوجودها مبرر والحالة هذه!! لكننا - ولله الحمد والمنة - نعيش في كنف وأحضان رجال دين جهابذة فتحوا أبواب أفكارهم لكل جديد يخدم دين الله وأنصاره، وكذلك الديمقراطية شأنها شأن هذه المصطلحات فكان الحكم السياسي الذي ساد الغرب منذ زمن طويل حكما يتسم بالاستبدادية والشمول، ومن ثم ظهرت الديمقراطية عند الغرب من أجل القضاء على الاستبداد والتعسف في الحكم.
إن مفكري العالم الإسلامي الذين استقوا أفكارهم من مدارس الغرب أخذوا هذه الأفكار ولم يتبينوا صوابها وخطأها بعد، بل دعوني أقول لكم شيئا هاما، إن مفكري العالم الإسلامي أخذوا هذه المصطلحات بعد أن انحرفت عن مسارها الصحيح وانحسرت مضامينها السامية وتنكبت الهدي القويم، فهم قد أخذوها بعد أن انطفأت جذوتها وكانت أسمالا بالية، وأصبحت اليوم هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع!!
إن مفكري العالم الإسلامي الذين تبنوا معاني هذه المصطلحات بعد أن خبت لم يلامسوا لب هذه المصطلحات، وإنما حاموا حول قشورها - ليس - إلا هذا أولا، وثانيا، أن مفكرينا اليوم تبنوا الفكر الغربي ولم يعلموا أن الدين الإسلامي الحنيف يحفل ويطفح بكل ما تحتاجه البشرية في تنظيم حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وهلم جرا.. فراحوا يتطفلون على موائد الغرب بعد أن انحرفت عن سياقها الصحيح، وإن الحيثية التي جعلت مفكرينا اليوم لم يعلموا أننا في غنى عن تلك النظريات، بل إن عندنا ما هو أسمى وأمتن منها هو لأنهم لم يتماسوا مباشرة مع النصوص الشرعية ولا سيما القرآن الكريم وصحيح السنة الشريفة. وبهذا البعد توقعوا أن الدين الإسلامي بحاجة إلى هذه النظريات الغربية!! وسأضرب القارئ الكريم بالحقيقة التالية: إن ما عند الغرب من شيء حسن هو من صميم ديننا ولو كان منشؤه هناك. إذ إن جميع الأشياء الحسنة عند الغرب في تنظيراتهم هي من صميم الإسلام ومن مجاذير تعاليمه الغراء. فمثلا إذا كانت الليبرالية في أسمى معانيها تحارب الظلم أليس الإسلام بل أليست الديانات السماوية قاطبة تحارب الظلم وتكبح نشاط من يمارسه وتنتصر للضعيف!!! وإذا كانت المجتمعات الغربية تضفي قداسة على العلم أليس الدين الإسلامي يبجل العلم والعلماء أنى كان مجاله؟؟ إن الله تعالى قال في وحيه الطاهر (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، إن الإِنسان لا يمكن أن يخشى الله حق خشيته إلا إذا كان عالما متفكرا في آياته، أي أن العلم هو طريق ممهد لمعرفة الله. وكذلك مصطلح الديمقراطية أليست جذورها توجد في تنظير الإسلام! أليس مبدأ الشورى الذي يضرب أطنابه في عمق الشريعة الإسلامية مبدأ مُفعلاً في الإسلام!! ناهيكم عن أن مبدأ الشورى أرقى سموا وأعلى كعبا من الديمقراطية، فربما يكون الباطل مع الأغلبية ومن ثم ينزل الغرب عنده وفقا للديمقراطية ولو كانت هذه الأغلبية على باطل ومن ثم يحصل الفساد ويتوارى الخير.. ولكن مبدأ الشورى يتبنى الرأي الصائب الذي يكون مع أحد الفريقين سواء كان أقلية أو أكثرية، إن الذي جعل مفكرينا في العالم الإسلامي ينأون عن التنظير الإسلامي اعتقادهم أنه لا يوجد فيه متطلبات المجتمعات البشرية الدينية! وقصارى معرفتهم بتعاليم الدين ولاسيما القرآن الكريم وصحيح السنة، أننا إذا اتبعناها تدخلنا جنة الآخرة ليس إلا، وما علم هؤلاء أن القرآن الكريم منهاج حياة ونبراس طري.
سأقول لكم شيئا هاما إن كان لمقالي بيت قصيد يتمثله فهو في الآتي - لو أن مفكرينا الذين ينادون بالليبرالية أو العلمانية أو الديمقراطية نادوا بها يوم كانت هذه المصطلحات تعطي ثمارا يانعة لأحسنا الظن بهم، ولقلنا حينها إن هؤلاء لم يعرفوا أن في وحي الله الطاهر مضامين هذه المصطلحات يوم كانت ذات عطاءات فكرية متينة، ولكن المفكرين العرب نلومهم يوم أن نادوا بهذه المصطلحات يوم أن بدت تنتج ثمارا فجة. وإنه ليؤسفني كل الأسف أن المفكرين العرب يقولون إن كل جديد في الغرب يجب أن نذوق طعمه، وأن هذا التصرف تصرف منبعه الجهل!! فكم من أشياء تبرأ منها الغرب إبان وصولها إلينا ولا زلنا نجربها!
السبب الثاني: إن بعض رجال الدين عندنا اليوم لم يغوصوا في معاني القرآن ومضامين السنة الشريفة، ولم يُعملوا عقولهم ويعصفوا بها لفهم هذه النصوص الشرعية، ولاسيما القرآن الكريم الذي ما ترك شاردة ولا واردة إلا وعلمها في هذا الكتاب العزيز، نعم، إن رجال الدين ومن يشتغلون به هم الآخرون لم يتولد عندهم تصور إلا ذاك التصور الذي عند مفكري العالم الإسلامي اليوم، وهو أن كتاب الله مهمته فقط أنه يدلف بنا إلى جنات النعيم ولا غير ذلك شيء!!
إن كتاب الله تعالى الذي أُنزل على سيد البشر هو كتاب جامع مانع لبغية الناس في الدين والدنيا معا على حد سواء. إن الأمة الإسلامية جمعاء دون استثناء يذكر قربت من هذا الكتاب قربا ماديا وإن كان هذا القرب مطلوبا، إلا أنها يجب أن تقترب من هذا الكتاب قربا معنويا حتى لا يفوتها شيئا من مضامينه وأفكاره السامية. إنه ليتملكني الأسف وتأخذني الحيرة حينما يحل شهر رمضان فيقبل الناس على قراءة هذا الكتاب ويتسابقون في قراءته قراءة سطحية لا يستفيد من قراءته في مضامير حياته العملية شيئا!!
إنه ليأخذني العجب أن يقرأ المسلم في هذا الشهر المبارك المرة تلو الأخرى آيات تبيّن شؤم الظلم وإذا به يمارس الظلم بأبشع صوره!!، وشخص آخر يردد آيات تحث على الإنفاق والصدقة والتكافل الاجتماعي وإذا به يمسك ويبخل!! وعلى ذلك قيسوا. إذ إن الأمة الإسلامية ولاسيما أولئك الذين يشتغلون بالفكر الإسلامي لم يأخذوا هذا الكتاب بقوة، والقرآن الكريم في آيات كثيرة يأمرنا أن نأخذه بقوة والقوة هنا التدبر والدراسة والتدقيق والتمحيص لنصوص هذا الكتاب. إن الله تعالى ائتمننا على هذا الكتاب أن نوصل معانيه السامية إلى الأمم والشعوب كافة، لأنه هو المنقذ للبشر من دروب الزيغ والضلال.
إني أرى أن أفكار هذا الموضوع تتجاذبني ذات اليمين وذات اليسار فأبعد النجعة عما كنت بصدده ألا وهو موقف هذين التيارين أو الفريقين من بعضهما البعض. إن المفكرين العرب الذين ارتموا في أحضان الفكر الغربي، ارتماؤهم هذا كان له سبب أو عدة أسباب منها: أن رجال الدين في العالم الإسلامي احتكروا معرفة نصوص الشرع على أنفسهم وحذروا غيرهم من الاقتراب إليها، لأن هذه النصوص لا يجوز أن يشتغل بها غير المتخصص فيها، ولكن هذا التحذير لا معنى له حيث إن كتاب الله علم احتوى جميع التخصصات، فمن هذا المنطلق كم من آية تحمل بين ثناياها عطاءات طبية فاتت علينا بسبب أن رجال الدين لا يعلمون بالطب وبسبب آخر هو أن الأطباء لم يقتربوا منها لأنهم من غير أصحاب العلم الشرعي، وكم من عطاء فلكي فات علينا بسبب أن رجال الدين ليس لديهم علم بالفلك وأن أصحاب الفلك لم يقربوا من هذا العطاء وهلم جرا في جميع فروع العلم والمعرفة.. إن مفكري العالم الإسلامي لم يتماسوا مع نصوص القرآن لسببين - أولهما أنهم ظنوا أن هذه النصوص لا يجدون فيها بغيتهم، وثانيهما أن رجال الدين أحيانا يحذرونهم من الخوض فيها وهم غير متخصصين في العلوم الشرعية، لكن الأمر غير ذلك إن كتاب الله متاح للجميع كل ينهل منه حسب تخصصه، إن الأمة الإسلامية عكفت على حفظ كتاب الله ذلك الحفظ الذي لا يفضي بنا إلى أبواب المعرفة والاستنباط شيئا، إن الله تعالى أمرنا بتدبر هذا الكتاب ودراسته دراسة عميقة لنحظى منه الشيء الكثير.. إن عليا - كرّم الله وجهه - ومن هو علي في الإسلام أُدلي بقبره وهو لم يحفظ القرآن الحفظ المألوف عندنا، ومع ذلك يعد فقيه الأمة الإسلامية ومن أعلى منه قامة ومن أرفع منه كعبا في ميدان الفقه والاستنباط. إني أكن إجلالا وتقديرا لذلك الشخص الذي عنده علم في مضامين سورة الإخلاص مثلا أكثر إجلالا من شخص يحفظ ما بين دفتي هذا المصحف بدون تعقل وتفكر.. وسأبوح لكم بشيء يدمي القلب اني أرى طالبا في حلقة القرآن الكريم يخرج من حلقته وإذا به يرمي عمود الإنارة بحجر أو يتندر بالمارة أو إلى غير ذلك من الممارسات الخاطئة!! ولكنه لو فهم مضامين القرآن ومبادئه السامية لما قام بمثل هذه الممارسات!! وعودا على بدء، لماذا الاختلاف والتفرق والحالة هذه؟؟ ولماذا لا يفهم بعضنا بعضا؟؟ إن الكتاب الذي بيننا والسنة المفسرة له هي نصوص تفضي بنا إلى جنان الدنيا والآخرة معا، فهذا الكتاب الذي بيننالو تدبرناه حق تدبره لرجونا به السماء ولعمرنا به الأرض. وإنه ليؤسفني كل الأسف أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا لم نهتدِ إلى عطاءاته الفكرية والحضارية إلا إذا أرشدنا الغرب إليها!!
إنني في هذا المقال المتواضع أرى أني رميت بجلباب الحياء بعيدا وتنصلت عن ذائقة الأدب وتطاولت على من هم أعلى مني قامة وأثبت قدما، ولكن لا ضير في ذلك طالما أني بجوار علماء أجلاء يصوبون خطئي فأنا طيع غير عصي لذلك. ودين الله أعز علينا من أنفسنا.
- بريدة