فاتحة
تقوم فكرة العطاء الإنساني على مزدوجية الموت والحياة، من خلال تصوير بشاعة الموت وعكس ما بالحياة من جمال وحيوية، ولهذا دفع الموت العديد من المبدعين لطرح عدة أسئلة، وقد وقف الإنسان حيال هذه التساؤلات عاجزاً عن الإجابة عليها، وهذا ما نراه هنا حينما يكشف لنا الشاعر عمق هذه الأوجه البشعة للموت، وكأنه يعمل على إعادة رسم صيغ لهذه الأسئلة من خلال هذا العرض، وهذا الملمح ما لمسناه في هذه القصيدة للشاعر محمد عابس.
شكل النص
تنقسم قصيدة «قبلة على جبين دمشق» إلى محاور عدة، كل محور يرتبط عضويًّا بالمحور الذي يليه، وكما سيلاحظ القارئ الكريم بأن قوتي الجذب في هذه القصيدة، هما: الموت والحياة تتصارعان في هذا النص، إذ إن كل محور يريد الهيمنة وبسط النفوذ على الآخر، لكن روح الشاعر الخالقة لهذا العمل هي التي توجه مسار هذا الموضوع.
صوت الضمير
نادَيتُ حُسنَكِ، كانَ الشوقُ مُشتَعِلا
يُسَائِِلُ النَّهرَ والصَّحْراءَ والجَبلا
دِمشقُ آتيكِ أطْوي الأَرضَ عَاشِقةً
يقودُني الحُبُّ يَرمي الخوفَ والخَجلا
دِمشقُ تاريخُكِ الوَّضَّاءُ يرمُقُني
بِنَظرةٍ تَنْشُدُ الأعْوانَ والبَطَلا
كون الشاعر هو القوة الدافعة لخلق النص وإيجاده من العدم، يكون عنصر الضمير لديه هو العامل على توجيه حركة الخطاب الشعري في القصيدة، حيث يبدأ المشهد بمناداة دمشق / المكان والزمان، وذلك أن «دمشق» لا يمكن انتزاعها من الجغرافيا أو عزلها عن التاريخ عند الحديث عنها أو معها.
الحياة
حَمَلتُها عاشِقاً والحُزنُ يَعْصِرُني
وثَورةُ الشَّعْبِ تَبني في الرُّبى أمَلا
رأيتُها تَمنَحُ الأَحْلامَ جَوهَرَها
تُعانِقُ الشَّمسَ تستدني لها زُحَلا
أشاوِسُ الشامِ قادُوها بلا كَللٍ
فأَورَثُوا لِلطُّغَاةِ الذُّعْرَ والمَلَلا
تَشرَّبُوا الطُّهرَ والإيمانَ من زمَنٍ
وأُشربُوا النَّصرَ دونَ الأرضِ، أو أجَلا
جَادُوا بأرواحهمْ، للهِ ما مَنَحوا
وفَارقُوا الدَّارَ، لا كُرهاً ولا وَجَلا
في ضوء ما يجري من أحداث هذه الأيام يعمد الشاعر على قلب المشهد، وعكس الصورة، لأن هاجس الحياة أقوى عنده من شبح الموت الذي انتشرت رائحته في الأحياء والطرقات الشامية، باعتبار أن الثورة على الظلم والعمالة والتبعية حياة تنبثق من تحت الركام، وكأن طائر الفينيق حينما يحترق بشير بعودته من جديد، من تحت الركام والجدران المتهدمة، من قاع القبور التي امتلأت بأجساد الضحايا، لهذا تسيطر دلالات الميلاد والحياة هنا «ثَورةُ الشَّعْبِ - تَبني في الرُّبى - أمَلا - الأَحْلامَ - تُعانِقُ الشَّمسَ - الطُّهرَ والإيمانَ» إذ تتداخل روح الثورة بنشوة ميلاد الحياة، لتتحول هذه الكلمات والصيغ الشعرية إلى إضاءات تنبثق وتضيء جنبات هذا النص.
الموت
جَحَافِلُ الظُّلمِ قادَ الكُفرُ دولتَهم
فَصدَّروا القَتلَ والتَّنكِيلَ والدَّجَلا
عَناصرُ البَغيِ عاثَتْ في الحِمى سَفَهاً
تَعَاهَدُوا المَكرَ حتى زادَهمْ خَبَلا
حُمَّى العَمالةِ تَجري في دِِمائِهِمو
ويُولَدُ العُهْرُ من أصْلابِهمْ سَفَلا
تَسابَقوا في رِضا الشَّيطانِ من صِغَرٍٍ
أَهداهُمُ الذُّلَ والتَّغْريرَ والزَّللا
كم رابَهم مَنظرُ الأطفال في دَعَةٍ
فَأَرسَلوا المَوتَ في آلاتِهم قُبَلا
وجُنَّ عاقِلُهم أنْ قدْ رأى صُوَراً
إنَّ الشعور الضاغط بسيطرة الموت على المخيلة الشعرية في النص دافعها عمق الإحساس بجماليات الحياة، ففي هذه الثنائية لا توجد منطقة رمادية وسطية «جَحَافِلُ الظُّلمِ - الكُفرُ - القَتلَ والتَّنكِيلَ والدَّجَلا - البَغيِ - المَكرَ - حُمَّى العَمالةِ - العُهْرُ - المَوتَ» حيث تزاحم هذه المفردات في هذه الأبيات بشكل لافت مما يكثف من شخوص حالة الموت بمعنييه الحسي والمجرد، وهذا يشير إلى أن مشاهد الموت التي رسمها الشاعر إنما تعبر في الحقيقة عن انتظار ميلاد حياة جديدة للشعب من حيث كونه جهة اعتبارية عامة تتجاوز الفهم التسطيحي للأشياء، ولسان حاله يقول: الموت للأحرار عمرٌ ثانٍ.
تمازج الثنائيات
لِربَّةِ الخِدرِ تَبني الرَّفضَ والجَدَلا
تُقَدِّمُ العَونَ للثُّوَّارِ واثِقةً
بأنَّ مُرَّ اللَّيالي يَسْبِقُ العَسلا
وتَحفَظُ الأهل والأولادَ عازمةً
ما راوَدَتْ غَفلةً أو خادَنتْ كَسَلا
تَشُدُّ من عَزمِهم، تَحمي سَرائِرَهمْ
ما همَّها من يَسوقُ الذَّمَّ أو عَذَلا
وراعَهُم تَمتَمَاتُ الشَّيخِ داعِيةً
صلَّى لِمكةَ، والرَّحمنَ كمْ سَأَلا
لِرفعَةِ الأرضِ والإنسان خالِصةً
مرَّتْ عُقودٌ وحُلمُ الشَّيخِ ما اكتملا
لاحتْ بعينيهِ رُؤيا النَّصرِ فارتسَمتْ
على مُحيَّاهُ سَعداً يَكْتَسي حُلَلا
الموت والحياة خطان متعاكسان لمسيرة واحدة هي مسيرة الكائنات على هذه البسيطة، والجميل في هذا النص أنه لا يرسم لنا مقابلة ضدية بين الموت والحياة، بل يشعل روح الحياة، ويجعلها تشعّ هنا، في الوقت الذي يرسم فيه صورة منطفئة للموت تتسلل إلى النفوس لتصيب الأرواح بالخوف والفزع، ومن علامات هذا الاشتعال تزاحم هذه التضادات التي انبثقت من ثنائية الموت والحياة، لكن وفق المسار الفلسفي للشعر لا وفق الفهم التسطيحي للأشياء «الرَّفضَ - العَونَ» وكذلك «مُرَّ - العَسلا» وأيضا «عازمةً - غَفلةً أو كَسَلا» وكذلك «شُدُّ من عَزمِهم أو تَحمي سَرائِرَهمْ - يَسوقُ الذَّمَّ أو عَذَلا»، وهذا ما يجعلنا أن نقول بكل ثقة إن إثارة الصراع بين هذين المتناقضين يعمق الوظيفة الجمالية للحياة والأمل، وتضفي على النص وهج الحياة والثورة، لأن المرء بشكل عام لا يمكن أن يعرف قيمة الحياة ما لم يشاهد قسوة مشاهد الموت، ولا يشعر بقيمة الوصال ما لم يكابد مرارة البعد والفراق.
روح الأمل
يا شامُ طالَتْ ليالي الظُّلمِ فانتَفِضي
وعلِّمِي هالِكَ الطُّغيانِ ما جَهِلا
كم خائنٍ لم يُرِدْ للشَّعبِ قائِمةً
لا يبتَغي عن جَدا أصنامِهِ حِوَلا
يا شامُ هذي بُروقُ النَّصرِ قد لَمَعتْ
كم أَفرحتْ دُوَلاً، كم أغضبَتْ دُوَلا
يا شامُ أنتِ السَّنا في يومِ عِزَّتِهِ
حّرَّرْتُها أسطُراً قدَّسْتُها جُمَلا
إنَّ الشاعر في مطلع قصيدته كان يعاني من الشعور بالتشظي من الحالة المتردية التي وصلت إليها أوضاع السوريين، لذا يتمسك بوهج الأمل الذي يريد له أن يسكن النفوس ويسيطر على مجريات الحياة، وأمام هذا الشعر يتوجه للشام / التاريخ والجغرافيا، للشام / الحضارة والإنسان، للشام / الأمل والألم «فانتَفِضي - علّمي - هذي بُروقُ النَّصرِ قد لَمَعتْ - أَفرحتْ دُوَلاً - أغضبَتْ دُوَلا - أنتِ السَّنا - حّرَّرْتُها - ً قدَّسْتُها»، معلنًا بأنه بالقدر الذي تتداعي فيه حال السوريين لهذا الحد فإن الأمل بالنصر يتسامى على الألم ناظراً للفجر بروح الأمل والإصرار.
الموت
يا شامُ لن يَرحَمَ التَّاريخُ منْ عَزَفوا
على الجِراحِ وسَدُّوا للعُلا السُّبُلا
من قامَروا بالمَصير ِالحُرِّ واحتفلوا
والشَّعبُ ما بينَ مَسجونٍ ومَنْ رَحَلا
من سافَروا في مُحيطِ الذُّلِ واعتَمَرُوا
طَعمَ الهَزيمةِ، أحيَوا عِندهُمْ هُبَلا
تَوارثُوا الغَدرَ حتَّى صارَ قِبلَتَهم
وصَدَّروا الوَهمَ في إعلامهمْ مُثُلا
تَفنَّنوا في صُنُوفِ القَتلِ وابتَهجوا
ودولةُ القَمعِ منها الشَّعبُ كمْ نَهَلا
هناك حكمة قديمة تقول: «عليَّ أن أموت لكي أولد من جديد.» وهذه الحكمة لا تتحدث عن موت على المستوى المادي المعروف، وإنما هو موت فلسفي يفسر المعنى المراد من دلالة رمز طائر الفينيق، وهذا ما نكاد نلمسمه في هذه الأبيات، إذ إن الشاعر لم يندب حال السوريين كما مر معنا، أو يصور حالهم التي يمرون بها، بل يعكس في هذه المقطوعة صورة أخرى، فهو يورد هنا عبارات تدل على الموت، لكنها تحفز من خلال وضعها بالسياق على الحياة والنهوض لإعلان ساعة الميلاد الجديدة، لذا يعرض من يحملون ثقافة الموت من القتلة والمجرمين والطغاة بصورة مهزوزة لأن مصيرهم الزوال، باعتبار أن الظلم مصيره إلى زوال.
تداخل الحياة بالأمل
دمشقُ عُودي فهذا الشامُ مُنتفِضٌ
لمْ يَنسَ تاريخَهُ لوْ عانَدَ الدُّخَلا
يا شامُنا كُنْ لنا تَزهُو الحياةُ لنا
نُعَزِّزُ الصَّفَّ حباً، نَرتُقُ الخَلَلا
بَشائِرُ النَّصرِ قد لاحَتْ بَوارِقُها
إِنِّي أراها تُهادِي الحُضنَ والقُبَلا
يا شامُ يا زَهرةً في القلبِ نادِيةً
أَستسمِِحُ الرَّبَّ إنْ كانَ الهَوى عَلَلا
هنا يطالب دمشق بالنهوض مستلهمة وهج التاريخ وعبق الماضي ليكونا لها منارة الطريق وبوابة السلام «دمشقُ عُودي - الشامُ مُنتفِضٌ - يا شامُنا كُنْ لنا - نُعَزِّزُ الصَّفَّ - نَرتُقُ الخَلَلا - بَشائِرُ النَّصرِ - أراها تُهادِي الحُضنَ والقُبَلا - يا شامُ يا زَهرةً في القلبِ نادِيةً»، إذ تتكثف كل هذه السياقات لتدفع الأمل بالحياة، وتمنح الحياة شرارة الأمل، وهذا هو ديدن النص ككل، حيث تتضح هذه الخاصية من العنوان الذي حمل اسم «قُبلةٌ عَلى جَبينِ دِمَشق»، وقد أخرنا الحديث عن العنوان والتطرق له لخاتمة القراءة من أجل استجلاء كل ما في النص من إضاءات روحية وإشاعات توهجية لربط أول الكلام بآخره.
محمد مهاوش - باحث وكاتب ومؤلف وناقد سعودي