في حوار مع زميل عمل ألماني دار نقاش عن الهوايات. قال مؤكداً إن القراءة ليست هواية، هي ممارسة يومية كما الأكل والشرب، هذا ما تعلمه وعرفه منذ الصغر وحتى اللحظة. هناك مشاريع هادفة في الوطن العربي تشجع على القراءة والكتابة. على سبيل المثال وليس الحصر،
مبادرة حاكم الشارقة الشيخ د. سلطان القاسمي الذي نادى بإطلاق مشروع «ثقافة بلا حدود». الهدف من هذا المشروع تزويد الأسر الإماراتية في الإمارة بمكتبة لكل أسرة يُنتقى لكل أسرة مجموعة قيمة ومختارة من الكتب باللغة العربية، والتي تعكس مختلف الموضوعات الأدبية والعلمية والدينية والثقافية وكتب الأطفال وغيرها. ويتم من خلال المشروع تنظيم برنامج مكثف من المحاضرات وورش العمل والنشاطات التثقيفية للمدارس الجامعات والمكتبات ولأفراد المجتمع بمختلف أعمارهم وجنسياتهم .ومن أهداف هذا المشروع الفريد من نوعه، تعزيز أهمية القراءة ودورها في عملية النمو الفكري لدى الأطفال بالإضافة إلى تعميق المعرفة العامة لدى جميع أفراد المجتمع المحلي.
في تقرير تلفزيوني، ناشىء عربي يعمل في ورشة حدادة يتحدث والده مع المذيع، يبلغه أنهم كانوا يعيشون في مخيم طوال حياتهم ونشبت حرب في المدينة التي يقع المخيم بجوارها. اضطروا للفرار إلى ما بعد الحدود. أ إلى دولة مجاورة ليجدوا أن المخيمات هناك ممتلئة، ولا مكان له ولأسرته. لم يكن لهم خيار سوى سكنة العراء ومن ثم اللجوء إلى مسكن في ما يشبه غرفة ليس لها جدران، فقط قطع من قماش مهترئ. بجوار هذه الغرفة ورشة حدادة التحق ابنه الناشيء ليعمل بها. مؤكداً أن إبنه كان قبل نشوب الحرب في المدينة التي فروا منها من المتفوقين في الدراسة والأول على مدينته في التحصيل العلمي. لهذا الناشىء خمسة إخوة واخوات كلهم توقفوا عن الدراسة.
الفقرات الثلاثة السابقة محطات مقتضبة، تحملنا لتفحص النقاط التالية، والتي تعكس بنظرة سريعة جوانب من واقع الفجوة الثقافية في الوطن العربي:
- القراءة: جاء في «تقرير التنمية الثقافية» للعام 2011 الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي» أن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنوياً.
- الترجمة: حسب المقارنات الواردة في «تقرير التنمية البشرية لعام 2003»، إن حصيلة الكتب التي ترجمها العرب منذ عصر الخليفة المأمون حتى بداية التسعينات من القرن الماضي لا تتجاوز الـ10 آلاف كتاب وهو عدد تترجمه أسبانيا سنوياً.
- طباعة الكتب والنشر: يشير «تقرير التنمية الثقافية» إلى أن عدد كتب الثقافة العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تتجاوز الـ5000 عنوان. بينما يصدر في أميركا، سنوياً، حوالى 300 ألف كتاب ثقافي. مع ملاحظة أن عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب عربي هو ألف أو ألفين ويصل، في حالات نادرة، إلى 5 آلاف، بينما تتجاوز نسخ الكتاب المطبوع في الغرب عادةً الـ50 ألف نسخة.
- الأمية والفقر: أشارت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) في بيان إلى أن نسبة الأمية بلغت في مجمل الوطن العربي في سنة 2014 حوالي 19% من إجماليّ السكان البالغ 287 مليون نسمة. أي قرابة 60 مليون شخص. كما أفاد تقرير الرصد العالمي للتعليم في سنة 2011 بأن عدد الأطفال غير الملتحقين بالتعليم في البلاد العربية يبلغ 6.188 مليون طفل، كما أن 7 إلى 20% من الأطفال الملتحقين بالفعل بالتعليم يتسربون منه خلال المرحلة الدراسية الأولى، بل وتبلغ النسبة في بعض الدول 30%. بينما هناك 75 مليون شخص عربي يعيشون تحت خط الفقر، ينضم اليهم اكثر من 10 ملايين يعانون من سوء التغذية . مجملاً هناك ملايين لا يستهان بها من البشر في الوطن العربي في ظلام الفقر وسوء التغذية وانعدام العناية الصحية وانتشار الأمية والبطالة.
لننظر بتعمق في هذه الحقائق والتي قد تكون الآن هناك دراسات أكثر حداثة منها ولم تصل إلى يدي بعد، حتى وإن كانت هذه الأرقام قديمة نسبيا أو تقريبية، فمما نشاهده وندركه بحواسنا هذا هو الواقع أو الأقرب للواقع الذي يمثل ما يجري على خارطتنا العربية.
لن نتطرق لمقارنة النقاط التي أدرجنها سالفاً تحت مسببات الفجوة الثقافية لدينا من خلال احصائياتهم، فستكون المقارانات غير مفاجئة لنا على الإطلاق! فقط نقترب مسلطين الضوء على بعض الخطوط العريضة بالمشهد الأدبي والثقافي لديهم في الغرب ولدينا في الوطن العربي:
- في الوقت الراهن نجد أن المجتمع الغربي مبني على حرية الكتابة في كل مجال، ومراكز الأبحاث تزود قنوات الإعلام والصحافة بفيض معرفي علمي وموضوعي. فالكاتب هناك لديه أجهزة استقبال بوعي كبير لذا يتناول مواضيع الكتابة بشكل مواكب ومساير لعصره. هناك مسميات وتصنيفات متعارف عليها في الرواية مثل: الخيال العلمي، كتب الناشئة، كتب الأطفال، روايات الإثارة، الرواية البوليسية، الرواي ة العاطفية، ...الخ. في عتبة هذا العصر والذي يليه، من المشكوك فيه أن توجد كتابة سردية بشكل تقريري ليس لرتابتها فحسب، بل لأنها لن تخدم فن تطور السرد هناك، بل ستكون من المعوقات التي لن يرحب بها. من ناحية أخرى دور النشر في تلك الدول تقوم كمؤسسات مساهمة في نشر الوعي مع تحقيقها لهدفها التجاري بالطبع. فتمحص النصوص من قبل أخصائين متمرسين يتبعون لها وقد يعرضون على الكاتب مقترحات من منظور أن واجهتهما معاً ككتّاب ودور نشر هو القارئ. أمر آخر حساس، أن الكاتب لديهم يعلم جيداً أن النقل والتناص أن جاز التعبير يعرضه لإشكاليات قانونية عدا خسارة أسهمه أمام القراء وكذلك دور النشر. في واقعنا بالوطن العربي، أي نص من الممكن يأخذ سبيله للنشر طالما هناك دور تجني أرباحها من الكاتب قبل القارئ.
- لدينا كما لديهم؛ أعني الغرب؛ سبلهم للدعاية والإعلان والانتشار. ولكن لديهم موضوعية بشكل واضح في ترقي سلم النجاح والشهرة ،سواء في قبول النصوص للنشر وتوزيعها وتناولها عبر الصحافة والإعلام. كل خطوة مدروسة بشكل منهجي واعٍ. كما ذكرنا في النقطة السابقة، الناشر له دور للمتابعة العلمية للمحتوى النصي ودراسة واضحة المعالم لكل كتاب، فيقدم الكتاب للقارئ بشكل مدروس، ليس لقيمة العمل الفنية والثقافية فحسب بل أيضاً لتأثيره في المتلقي، ومن ثم في المجتمع هناك. نجد تصنيفات الكتب معنونة بشكل واضح من حيث كتابة للتسلية، وكتابة للمتعة الثقافية والفلسفية يهدف من ورائها بناء درجة من الوعي الهادف للنسيج الأدبي والثقافي. حتماً هذه التصنيفات مصرح بها سواء من قبل الكاتب، ودور النشر وكذلك المتلقي من العامة والمتخصص في المجال النقدي والأكاديمي والباحثين في الدراسات الإنسانية والاجتماعية. فكل منتج أدبي يسهم في الثقافة العامة والخاصة على حد سواء يجد مكانته المناسبة.
- الشخصية الاعتبارية في الغرب مكفولة لكل مواطن عبر المؤسسات والهيئات الرسمية. فللكاتب شاعر، قاص ، روائي أن يقتات من الكتابة والتفرغ لها تماماً بدعم كامل يتناسب وكل دولة. في الدول العربية، قد تكون الكتابة موازية لوظيفة أخرى أي تتم في وقت الفراغ. يندر أن نجد كاتباً متفرغاً لإبداعه.
- النقد لديهم بمدارسهم العتيقة والجديدة يظهر تطور ومواكبة للإبداع. كما تطرقنا لأسباب الفجوة الثقافية نجد الناقد لدينا أيضاً له معاناته في سبل الحياة، فجهده المبذول إن لم يكافئه عائد مادي و/ أو معنوي يدور في سؤال: لِم يتطوع لقراءة وكتابة منتوج غيره. عدا ذلك ففي وطننا العربي وقفنا في سلم الترجمة والمتابعة النقدية في حيز لم يتجاوز عقود ولت من الزمان .أي أن التطور في أدوات النقد في عالمنا العربي رهينة للإجتهاد الشخصي في المواكبة.
- صناعة السينما في الغرب تنتظر قيمة أدبية وثقافية بين الأعمال السردية المنشورة، وتقتنصها للعرض عبر الشاشات. فشرائح المجتمع بالتالي تلتقي بنماذج نوعي أمام الإبداع. مع قلة التوجه المدروس والهادف في الحقل السينمائي لدينا، ومع ندرة توفر الشركات المنتجة نجد أن معظم المختصين بالشأن السينمائي والتلفزيوني يهدفون في الغالب للكسب من عرض ما يناسب رفع أسهم الشباك قبل كل شيء.
- هناك الأعمال الأدبية التي ترقى لمستوى الفوز بالجوائز المتعددة لا تُنتقى لمجرد اختيار عبثي، في الغالب. حيث تتكون لجان التحكيم من مختصين في مجالات أدبية ،وقد يكون بعض أفرادها بعيدين عن الأدب كممارسة، ولكن لأن الوعي الثقافي مبني على منهج علمي منذ الصغر لمجمل شرائح المجتمع، تكون هذه اللجان متفق عليها ولا تواجه نقداً أو مغالطات، فلاعب كرة القدم والمغني والممثل والمخرج السينمائي..الخ فرد مرشح لتبوؤ مسؤلية اختيار النصوص الأدبية عبر لجنة تحكيم لمسابقة. والنصوص الفائزة تخضع لقراءة ودراسة بمقومات وأسس ومعايير معلنة ومبررة. يندر أن يصدر بعدها تشكيك في أهليتها للنجاح، وإن حدث فهناك لجان مراقبة للتحقق والحسم. على قلة المسابقات الثقافية والأدبية لدينا في الوطن العربي، هناك استفهامات من قبل المتابعين تطال المسابقات والجوائز في كل حيثياتها: الهدف، الجدوى من ورائها، لجنة التحكيم المختارة، النصوص المنتقاة، المنهجية والمعايير المتبعة، المصداقية في كل خطواتها، مدى حق الإستماع للرأي العام والرد بموضوعية.
ببساطة طالما استطاع الفرد هناك القراءة، فالكتاب صديق مرافق في جميع المراحل العمرية بغض النظر عن المهنة والخلفية الاجتماعية. هناك وعي وإدراك لأهمية الكتاب ومحتواه النصي بشكل يسهم في تداوله وعرضه وإنتشاره بحس فني وعلمي على حد سواء. المتلقي له الأولوية والرأي الذي يرتقب.أما الحراك الثقافي فهو مبني كنسيج واحد يجمع المبدع/الكاتب والمتلقي/القارئ ويصب في حضارة تلك الشعوب كسمة عصرية تنبض بواقع ثقافة وفنون تلك المجتمعات.
فلنقترب بعدسة مكبرة نحو المشهد الثقافي الآن في الوطن العربي:
عل ى الرغم من الفجوات في بنيتنا الثقافية والعراقيل في تبني ونشر الإبداع، نجد خارطتنا «واعدة» إن جاز التعبير، نعم واعدة لأن هناك عطاء يقابل الحاجة، ما أن تنشأ ثغرة إلا وتسد مقابلها ثغرات حتى وإن كان ذلك بمجهودات فردية.
- من المفترض أن الكاتب يمتلك أدوات تخصه وتكوينه الثقافي، ومن ضمن هذه الأدوات القراءة. من الممكن أن نجد جميع شرائح المجتمع تلتقي في قراءة الصحف اليومية وشريط الأخبار من على شاشة التلفاز والمعلومات التي تُلتقط من شبكات التواصل الإجتماعي والقنوات الإعلامية. هل من الرفاهية أن نقرأ ونكتب؟ في واقعنا قد تكون الإجابة بصوتكم «نعم» لأكثر من 50% ! ومع ذلك لدينا في تاريخنا الإبداعي من كتب في مجالات متنوعة استفادت منها مجتمعاتنا حتى وإن كانت قلة. لن أذكر أسماء ولكن كل منكم يمكنه أن يعثر في ذاكرته على أسماء الأقلام الجيدة التي وضعت بصمتها على الثقافة والأدب العربي على مر العصور؛ على الأقل عَلم في كل مجال يشار إليه بالبنان.
- لطالما كررنا مقولة أن الكاتب الجيد يجب أن يكون أولاً قارئ نهم قبل أن يكون كاتباً. لا نقف عند دور الحكايات التي نسمعها منذ الطفولة الأولى والتي حتماً تسهم في ذخيرة مخيلة الكاتب.أيضاً لا ننكر دور الثقافات المحلية التي من خلال مواضيع الأساطير والقصص التراثية تشكل منبع خصب للروايات والشعر.
- مما لا شك فيه، مهنة أو هواية الكتابة مسئولية تتطلب الوعي بأمور لن تؤتى إلا بنوع من القراءة المتعمقة، في شتى المجالات. وكذلك المتابعة الحثيثة لتطور الأعمال الإبداعية كلٍ في حقله. إن كان هناك قصور أو إنعدام للجهات الداعمة لهذه الصروح الإبداعية، نجد الإجتهادات الفردية هي السبيل، كما في كثير من الحالات. بروح المثابرة نجد الكاتب المبدع يقوم بنهل المعرفة والعلم من خلال فتح قنوات للتلقي مع أنظمة تعليمية وتثقيفية غير تقليدية مستفيداً من توفر المعروض من حولنا. أي لا نستهين بتوفر سبل التواصل العصرية المتاحة. والتي لم توفر المعلومة فقط بل وترجمتها وتداولها دون حدود جغرافية. على الرغم من أن الترجمة في وطننا لها معاناتها نجد هناك اطروحات جيدة تهتم بهذا الشأن، من قبل المختصين من حيث لغة العرض و إختيار الكتب المواكبة لنقلها من لغات أجنبية إلى لغتنا والعكس ايضاً. من ضمن هذه المشاريع المساهمة،على سبيل المثال: مشروع كلمة، جائزة الشيخ زايد، الجائزةالعالمية للرواية العربية، كلها بإشراف وتمويل هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
كل مهتم وعامل بالشأن الأدبي والثقافي، من الممكن أن يسهم بما يتأتى له من أدوات لتطوير عرض وتداول الموروثات الثقافية والأدبية. بشكل يجعل من اليسر مشاركتها مع عقليات تعقبنا أكثر تطوراً ومواكبة لتغيرات العصر التي تغزونا بشكل مباشر أو غير مباشر وتتداول أدواتها بشكل يومي. مقولة إن المعاناة تولد الإبداع مقولة رهن النسبية. لكل مبدع أن يجعل عمله يتحدث عنه وليس العكس. إن الكتابة من الممكن أن تبني حضارات وقد تئدها. المحاور التي حملتها هذه الورقة تجعلنا نقف أمام معضلة الكتابة الفاعلة في مجتمعات تعاني من قصور في الرؤى والبنية التحتية للنهوض بالأدب والثقافة. ومع ذلك فلدينا خامات جيدة وواعدة من الإبداع، عليها أن تجد طريقها للمواكبة كما يقع على عاتقها القيام بمسؤلية التنافسية على أصعدة الكونية. ليس الطريق سهلاً، ولكن هناك مساحة كافية لمحاولة اقتناص الأفضل.
آن الصافي - أبوظبي