لم تمنعه أصوله الإفريقية بشعره الأجعد وشفتيه الغليظتين في أن يكون شاعر روسيا الأوحد دون منازع!.. وزنجي بطرس الأكبر إنما قصد به جدّه لأمه الإفريقي!.. كسيرة لم يخجل من ذكرها وإن لم يكملها!..
وإذا أردت أن تعرف عن روسيا القيصرية أكثر في القرن التاسع عشر فإن ألكسندر بوشكين هو بوابة الذاكرة والتاريخ للقارئ!.. وما بينه وبين الثورة البلشفية قرن من الزمان إلا أن أفكاره التحررية ومناداته للديمقراطية وحقوق الشعب كاملة قامت ثورة لينين بتطبيقها نيابةً عنه ولكن بصورة مشقلبة بحيث تكون السلطة ليست للنبلاء والقيصر، وإنما للشعب ولكن داخل الحزب الواحد بديكتاتورية أسوأ من إيفان الرهيب، فظل الشعب يكدح كما كان دون تغير يُذكر سوى في أسماء الطغاة!.. وعلى كرهه للغرب وبغضه الشديد لنظامها الملكي الإقطاعي واصطفافه مع طبقة البوليتاريا إلا أنه مع تقادم العقود أضحت أوروبا صاحبة ديمقراطية كما كان يريد!!. على سنّه الصغيرة كشاعر وكاتب لأنه قُتل وهو في العقد الثالث من عمره، إلا أن غزارة إنتاجه يُخيل إليك أن الذي أمامك رجل قد شارف على العقد الثامن أو التاسع فرواية «يفغيني أونيغين» الشعرية أعطته جوازاً نحو الفوز بلقب أمير الشعراء فقد عاش قصتها كلمة، وحرفاً، وحدثاً، حتى إنه شعر باليتم بعد أن أنهى كتابتها، وبوشكن روائي من الطراز الأول ورواياته التي تدعو للثورة والحرية والمساواة كابنة الضابط ويفغيني ومدير المحطة وغيرها ألهمت غوغول في قصة المعطف ودوستوفسكي في الفقراء وتولستوي في قصصه الشعبية حتى أصبحوا رواد الرواية وقدوة للثوريين ليس في روسيا فحسب بل في العالم!.. وسأكتفي بالتوقف في محطة واحدة من حياته القصيرة! وتجربته في المنفى عند القوقازيين التي أثْرتْ عقليته بنتاج جديد تولّدت على إثرها أفكار عقدية دينية في الشعر حيث اختلاف الحياة الروحية عمّا كانت عليه موسكو من مسيحيّة أرثوذكسية بحتة، وعلى ما قرأ من القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة عن حياة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وتأثره بذلك كما يُقال! يُذكّرنا بريلكه الشاعر الألماني حين حلّ ضيفاً في مصر وقرأ عن السيرة النبوية الشريفة، فأعجب بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب عنها فإن بو شكين كتب هو أيضاً أكثر مما كتب ريلكه، إلا أنه لم يطرق باب الإسلام، فالمتأثر بخلاف المعجب، وهو على درجات في التقليد والمحاكاة والذكر فقط ولأنه ظل على نصرانيته، فأعتقد أن شعره في ذلك كان إما لإحراج الكنيسة ورجال السياسة المتنفذين لإظهارهم بمظهر المخطئ لأنهم السبب المباشر في نفيه. ولأنهم أصحاب القرار والحظوة عند القيصر، أو يكون إعجاباً فحسب!.. وقد يكون الثنان معاً! وعلى كل لم يكتب عنه من العرب إلا القليل ممن بحث في الدراسات الأدبية الروسية أو في الآداب المقارنة، وكان علينا أن نمعن ونغوص في أدب بوشكن فمحاكاته للقرآن الكريم جاءت لازدواجية التأثير بالقرآن والإنجيل واعتقاده أن القرآن بإمكانه محاكاته كالإنجيل، فكانت محاولة باردة ليس فيها روح ولا معنى وساقطة لا يُعتد بها كمحاولة مسيلمة الكذاب الذي حاول المحاكاة بالأسلوب واختار الضفدع في ذلك (يا ضفدع نقي كما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين)!.. وبوشكين لم يختر الأسلوب وإنما انتقى الكلمات بنفس طريقة القرآن في القسَم ويتحدث بلسان الله (جلّ جلاله) في القصيدة! معدداً نعمه عليه! وهي تجربة جديدة خاضها بوشكين في المنفى فأراد أن يتمثلها في قراءاته الجديدة ويخضعها لروح الشعر كمنحى آخر في حياته الأدبية!.. وإلا ماذا تمثّل له صلاة الشفع والوتر والعصر وهو نصراني حتى يُقسم بهما؟!.. ولا أعلم لمَ اختار القسم وهو يعدد نِعَم الله عليه؟ فلا غاية في ذلك سوى محاكاة فقط!.. وإن كانت بصبغة إيمانية وإحساس بالنعمة!:
أقسم بالشفع وبالوتر،
أقسم بالسيف وبمعركة الحق،
أقسم بنجمة الصبح،
أقسم بصلاة العصر.
كلا، أنا ما هجرتك.
فمَن إذن شملتُ برعايتي،
وأنزلت السكينة عليه،
وحميته من المطاردة القاسية.
ألستُ أنا الذي سقيتك؟
من ماء الصحراء في يوم العطش؟،... إلخ
وله في محاكاة القرآن الكريم العديد من القصائد ولكن أقل تقليداً من هذه اقتباساً وتضميناً في بعضها! وإن أوّلَ البعض بعدم القصد في التقليد إلا السير على هداه والاحتذاء به وهذا كلام يدخل في العشاء كما تقول العرب.
بينما قصيدة نساء النبي الطاهرات تعتبر كقطعة نثرية يحاكي فيها أسلوب الإنجيل في ذكر الوعظ والنصيحة وكأنه فطن إلى عدم تكرار تجربته الأولى في (المدثّر والعصر والفجر) لعجزه عن ذلك وهذا طبيعي!!.. فبدأ بالتدرج في المحاكاة بأن ترك التقليد اللفظي شيئاً فشيئاً واختار الأسلوب! وسأدرجها كقطعة نثر وليست كشعر لتقارن بينها وبين وعظ الإنجيل:
(يا نساء النبي الطاهرات، يا مَن تتميزن عن كل النساء: بالنسبة لكنَّ مرعب شبح الخطيئة. في ظلِّ الطمأنينة الرغيد، عِشْن بتواضع: وجب عليكن حجاب الفتاة العازبة. ولتحفظنَ قلوبكن وفيةً لأجل التنعّم شرعاً وحشمة...).
وفي الإنجيل الإصحاح 18 من الوعظ:
(إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب إليه وعاتبه بينك وبينه على انفراد، فإذا سمع لك، تكون قد ربحت أخاك، وإذا لم يسمع، فخذ معك أخاً آخر أو اثنين، حتى يثبتَ كل أمر بشهادة شاهدين....) فتلاحظ تناسب الأسلوبين وقرابتهما في المحاكاة بغض النظر عن اختلاف الألفاظ! وكأنهما خرجا من شرنقة واحدة!. وبعيداً عن غزل بوشكين أكتفي بتجربته في القوقاز التي تفاجأ بطبيعة أرضها الساحرة وخيرات مصادرها ومناظرها الخلّابة التي أعطته جمال الوصف ودقّته ونجد ذلك في قصيدته - القوقاز تحتي وحيداً أقف في القمة -!! ففيها خلاصة مهارة بوشكين في وصف الطبيعة، وهو بعد في سن لم يتجاوز الخبرة!. قليل من النوابغ من يبدع في الشعر والرواية معاً، ويكون فيهما أستاذاً في القمة بحيث يكون قدوة لأجيال تسير على خطاه ويُحتذى به وألكسندر بوشكين أحد هؤلاء القلائل.
- زياد السبيت