دائماً ما كنا - ولا نزال - نعتني بالشكل أكثر من المضمون، ويأخذنا المظهر على حساب الجوهر، ويغطي «البصر» نشاط «البصيرة» حتى أصبح «الإطار» أهم من الصورة، وشكل «المغنِّية « أهم من صوتها!
ووصلنا إلى درجة قامة الاحتفالات بالفوز والانتصار، من دون أن نلمس عمليا مدى انعكاس وقيمة هذه الانتصارات والنجاحات على أمن ونمو البلد، لكأنّ مراسم وطقوس الاحتفالات بكامل بهرجتها وصخبها وألوانها هي المرتجى والمراد، أما جوهر النصر الحقيقي أو الفوز – في حال حصوله فلا أهمية له، فالشكل والشكل فقط هو الأساس.
أَوردتُ هذه المقدّمة لأصل إلى بعض ممارساتنا الضاربة في عمق الزمن، التي تقدس «القشور» وتهمل «اللباب». فنحن العرب من الشعوب «اللاحمة» التي تتيمَّتْ بحبِّ «اللحوم» على اختلاف أنواعها: مشوية، مقلية، مسلوقة ، مطبوخة/ مقدَّدة ومدخَّنة.. وعلى الرغم النشاط المتنامي للجمعيات النباتية، وحماسة وغيرة جمعيات الرفق بالحيوان، فقد ثَبَّتَ آكلو اللحم ورسَّخوا سيطرتهم بأغلبية ساحقة باستهلاكهم المتصاعد وافتراسهم للخرفان والعجول والشياه..
ومن جملة ما أحبّوه واستساغوه إضافة إلى «الكروش والفوارغ»، ما يُسمّى «بالمعلاق» الذي يحتوي على طيبات عدة توازي في نكهتها طعم اللحم بل وتتعداه!
أحد الأيام ذهب أحد المواطنين إلى سوق اللحوم بهدف شراء «معلاق» وطلب من «اللحَّام» أن يشرح له بالتفصيل طريقة تجهيزه وتحضيره للشواء. بدأ اللحَّام بالكلام، وكأنَّه يحاضر في الجامعة، مفنّداً دقائق الأمور، مستعرضاً مزايا هذه الأكلة الطيبة، مُبيِّناً تقنيّة التقطيع والفَرْم، ثم «الشك» بالأسياخ إلى جانب التعامل مع حرارة جمر منقل الشواء. هنا قاطعه الزبون قائلا: لو سمحت هل بالإمكان كتابة كل ما شرحتَ على ورقة، فأنا لم أحفظ تلك التقنيات وربما سأنسى غالبيتها عند التنفيذ العملي، لهذا فإن الورقة المكتوبة تجعلني في أمان وعلى معرفة بكل المراحل التي تفضَّلت وأدليت بها.
ابتسم اللحام وتناول ورقة وكتب التفاصيل كافة، ثم وضع «المعلاق» في كيس من البلاستيك، فأخذه المواطن بعد أن دفع الحساب شاكراً، ثم خرج من المحل إلى الشارع منتظراً على الرصيف المقابل مرور سيارة تاكسي تقلّه إلى المنزل.
في هذه الأثناء مرّ أحد الكلاب الجعارية الشاردة، بعد أن استشعر رائحة ما في الكيس عن بُعد، واستشمّ النهكة عن قرب، فخطفه بسرعة البرق من يد صاحبنا وانطلق بعيداً..
ذهل السيد المواطن وأصابته رعشة وكاد أن يسقط على الأرض، إلا أنه تماسك وصرخ بصوت جهوري وبشيء من التهكم والاستعلاء مخاطباً الكلب المبتعد: أيها الكلب الغبي؟ لقد وَرَّطتَ نفسك وسرقت «المعلاق» إلا أن الورقة الوثيقة لكيفيّة تحضيره وأكله فهي معي!!
أيها القارئ العزيز يغمرنا السرور الكاذب بامتلاكنا للأوراق الشكلية- فقط- أما قضايانا المصرية نفسها فهي بحوزة الآخرين وتحت سلطتهم.
تذكرت هنا قول أحد الأطباء الجرَّاحين لأهل مريض كان قد أجرى له للتو عملية: الحمدلله أن العملية نجحت مئة بالمئة أما المريض فقد مات!!!
- د. غازي قهوجي
kahwaji.ghazi@yahoo.com