إنَّ مقام الشكر من أعظم مقامات العبودية وأشرفها وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه، فهو سببٌ لرضاه {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، وهو سبب للجزاء الأوفى {وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}، وهو كذلك سببٌ للنجاة من عذاب الله {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}.
وأكثر الخلق حمداً وأتمهم شكراً، أعظمهم عند الله قدراً، وهم الملائكة والأنبياء والصالحون {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وعندما يرى أهل الجنة منازلهم يُسرَّى عنهم ويسرُّون أعظم السرور ويحمدون الله أتم الحمد ويقولون {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}.
ومن فضل الله تعالى على بلادنا أنها من عقود متطاولة تنعم بأعظم النعم، فالإسلام في أنحائها ظاهر، والعلم في أرجائها منتشر، والعلماء في أقطارها متوافرون، والعيش قار، والرزق دار، مع أمن واستقرار، وحفظ من الأكدار وسيء الأقدار، فالحمد لله على فضله وكرمه وإحسانه وامتنانه.
إنَّ الناظر في الأمم حولنا وما فيها من الفتن والحروب وتسلُّط السلاطين وفشو الفقر والمجاعات التي أهلكت الحرث والنسل والنكسات الاقتصاديه التي مُنيت بها كثير من الدول لَيدرك مقدار النعمة التي أكرم الله بها بلادنا واختصنا بها.
وكل ما زادت النعم تعاظم حق شكرها، فبالشكر تدوم النعم وتزيد، وبالكفر تذهب وتزول وتبيد {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
وحيث إننا في أيام إجازة تكثر فيها الحفلات التي يتخللها ما يتخللها من خير وشر، وحق وباطل، فإني أُحدِّثكم عن شيء من الواقع، وعن شيء من واجبنا تجاهه.
فمما يقلق قلوب الأخيار: تلك الحفلات المتكلفة التي يتجاوز فيها أصحابها الحق ويحيدون عن الصواب لما يكون فيها من المنكرات.
ومن تلك المنكرات: الإسراف الذي لا يرتضيه العاقل فضلاً عن المؤمن المطيع المتّبِع، وذلك بإقامة الحفلات التي يُنْفَقُ فيها مئات الآلاف بل الملايين! ينفقونها في ليلة واحدة مع أن من أقاربهم وأحبابهم وجيرانهم وإخوانهم في الله من سُجن بسبب ديون لا تساوي عُشر تلك المبالغ، وفيهم أرامل لا يجدن أيجار بيوتهن، وفيهم فقراء لا يجدون قوت عيالهم!
فهل يجوز لنا أن ننفق تلك الأموال الطائلة مع أننا نستطيع بنصفها أو ربعها أو أقل من ذلك أن نقيم أحسن الاحتفالات وأطيبها وأكرمها وأوفاها؟
ومن المنكرات الظاهرة: انتشار الغناء والآت الموسيقى في الحفلات، وهذا منكر عظيم، نقل الإجماع على تحريمه جمعٌ من العلماء.
ومن المنكرات: ما يكون من الاختلاط ودخول الزوج على زوجته إلى قاعة النساء، وقد يكون معه جمع من الرجال، وذلك عند الله عظيم!! ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - (إياكم والدخول على النساء)؟ هذا في حال سترهن وعدم تزينهن فكيف بهن وقد تجملن أتم التجمل؟!
ومن المنكرات إلقاء الأطعمة بعد فراغ الناس في حاويات المهملات، وهذا أمرٌ سيءٌ مُحزِنٌ مُقلِقٌ ليس من شكر النعمة في شيء، بل هو سبب لغضب الله ونقمته وزوال نعمته وتحول عافيته.
فلنتق الله في مراعاة هذه الأطعمة ولنتعرَّف قبل وقت الاحتفالات على طرق تصريفها، وذلك بالبحث عن مساكن الفقراء وأرقام الجمعيات التي تستقبل فائض الطعام لئلا يتضايق الوقت ويعسُر أمر التواصل مع المحتاجين.
وأدعو من فتح الله عليه من أغنياء المسلمين أن يسعى بالتنسيق مع جمعيات البر إلى إقامة مستودعات خيرية تشتمل على ثلاجات كبيرة وسيارات كافية وعمالة مدربة تصل إلى كل بيت وكل مناسبة.
إن مواسم الأفراح نعمة من الله تعالى على عباده، والمؤمن المُوفق هو الذي يستعمل نعمة الله في طاعته ورضوانه لا أن يجعلها في معصيته وسخطه.
فاحرصوا على أن تكون أفراحكم عامرة بالخيرات، عارية عن المعاصي والخطايا والمنكرات، واعلموا أن هذه الأخطاء تتطلب منا وقفة جادة على مستوى الأسرة والمجتمع، وأول خطوات الإصلاح أن يستشعر العبد المسؤولية ويجلس إلى زوجته وأولاده وأن يُحاسبوا أنفسهم ويسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، لا أن يكون الأب في البيت مجرد أداة دفع وعمل، كمكينة صراف أو سائق مشاوير لا كلمة له ولا رأي ولا نصيحة ولا اعتراض، فأنتم أيها الآباء رعاة مسؤولون، ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقول (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم تموت وهو غاش الرعية إلا حرم الله عليه الجنة) (متفق عليه)
الحديث كثير الفصول، طويل الذيول، أكتفي منها بما ذكرتُ خشية الإملال، وبالله التوفيق، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد.
محمد بن سليمان المهنا - إمامٌ وخطيبٌ جامع الملك خالد بالرياض