د. بكر أبوبكر ">
العلاقة الفلسطينية السعودية علاقة ذات جذور، بنيت على أسس من المحبة والثقة والاحترام والوشائج العربية والإسلامية ضمن الأمة الواحدة، فهي تمتد لعمق التاريخ المرتبط بقيام المملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز، وتأصلت مع انطلاقة الثورة الفلسطينية ومن خلال حِراك الرئيس الراحل ياسر عرفات والملك فيصل رحمهما الله والقيادتين الفلسطينية والسعودية من بعدهما.
لا يمكن لعلاقة كهذه ذات عمق تاريخي ارتبط فيه بلد الحرمين الشريفين مع الحرم الثالث إلا أن تكون وثيقة، وراسخة، ومتصلة، ومع كافة مكونات الشعب الفلسطيني، وعبر قنواته الرسمية والشرعية، وكما أكد عليه الفلسطينيون والسعوديون مراراً.
الموقف السعودي السياسي منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني واضح في رفض الغزوة الصهيونية، فلا تعترف المملكة بـ(اسرائيل)، وإن تقدم الملك عبد الله عام 2002 بمبادرته للسلام في بيروت فأنه ربط ربطا وثيقا بين السلام وانهاء الاحتلال وعودة اللاجئين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، فيما أصبحت «المبادرة العربية». والموقف واضح كسياسة ثابتة في تقديم كافة أشكال الدعم الرسمي والشعبي.
في الجانب المتعلق بالدعم الاقتصادي بأشكاله المتعددة تعتبر المملكة الدولة العربية الوحيدة تقريبا في تقديم هذا الدعم دون تأجيل أو مماطلة أو شروط، عدا عن عشرات المشاريع والتبرعات الشعبية المتواصلة التي يقدمها الشعب السعودي للشعب الفلسطيني من خلال اللجنة الشعبية التي تتشرف برئاسة الملك سلمان منذ تأسيسها في العام 1967م.
وفي جانب الوحدة الوطنية الفلسطينية وقفت المملكة موقف الداعم للوحدة والمحرض عليها والرافض للخروج عليها، فرفضت كل محاولات القفز على الممثل الشرعي للفلسطينيين أي منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية وصولا لتدخلها المباشر الأخير في حل المشكلة بين حركة فتح وحماس حيث برز للمملكة الدور الايجابي في محاولة لم الشمل الفلسطيني فيما عرف باتفاق مكة عام 2007 الذي تلاه بأشهر انقلاب حركة حماس في غزة.
أما ما قد يجهله البعض عن عمق العلاقات «الأخوية» الضاربة في التاريخ العربي، فهو أن السعودية أرسلت مجاهدين لدعم الثوار في فلسطين في الحروب العربية الثلاثة ضد الاحتلال الصهيوني في الأعوام (1948، 1956، 1967) وكان للملك سعود بن عبدالعزيز تصريحا هاما عام 1956 إذ أعلن بلا مواربة أو مداورة استعداده (للعودة لركوب الجمال والخيل وأكل التمر في سبيل العروبة والتضحية، لأن العزة والشرف مطلبنا، لا الذل) ما هو ترصيد لذات السياسة التي خطها الملك عبدالعزيز، وفي حرب أكتوبر 1973م وقرار حظر تصدير البترول للدول التي تناصر العدوان ولا تنتصر لعدالة الحقوق العربية والفلسطينية، ولطالما دعا السعوديون لتحرير القدس واستعادة الأرض العربية والفلسطينية حكومة وشعبا، قال الملك سلمان (الأمير حينها) في الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 أن الشعب الفلسطيني (يسطّر أشرف وأنبل معارك الجهاد مقدما أرواح أبنائه ودمائهم رخيصة في سبيل دفاعه عن حقوقه ومقدساته وفي مقدمتها الأقصى الشريف....) مضيفاً لمن لا يسمع أو يفقه، ومحددا أسس العلاقة الثابتة بالقول: (إن دعمنا للشعب الفلسطيني ومؤازرته وتأييدنا له على كافة المستويات والأصعد نابع من أواصر الدين والأخوة والمحبة...) مضيفاً (والنصرة) وان هذه المساندة (واجبة بكافة أشكال الدعم) ويقرر إنها ليست آنية أو مؤقتة أو موسمية بل هي (حتى يأذن الله من استرداد حقوقهم) ولا يترك مجالاً للتشكك ما هو ممثل لسياسة المملكة، إذ يقرر ويكرر ويؤكد على (استمرار مواصلة دعوتنا لكي يواصل الجميع مد يد العون والمساعدة والتبرع لأبناء شعبنا الفلسطيني...)، وقال (المملكة وفلسطين علاقة مصير).
إن الوعي السعودي بمخاطر الغزوة الاستعمارية والصهيونية على الأمة كان قديماً، منذ الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، ولنا أن نطل على مواقف مشرفة للملك المؤسس.
أرسل الملك المؤسس رسالة إلى الرئيس الأمريكي ترومان عام 1948 يقول فيها الكثير، ومما سطره يقارن فيها بين الاحتلال الصهيوني والحق الفلسطيني بطريقة حكيمة، يقول (لو اعتدت دولة قوية على إحدى ولاياتكم المتحدة، ففتحت أبوابها لمهاجرين من شذاذ الآفاق ليقيموا بها دولة، فلما هب الامريكيون لرد العدوان والحيلولة دون قيام تلك الدولة الغريبة في أرضهم جئنا نحن نناشدكم بحق الصداقة التي تربط بلدينا وباسم السلام العالمي أن تستعملوا نفوذكم ومكانتكم لدى الأمريكيين ليكفوا عن بلادهم ويمكّنوا لذلك الشعب الغريب أن يقيم فيها دولته حتى يسجل التاريخ في صفحاته البيضاء أن الرئيس (ترومان) قد استطاع بحكمته ونفوذه أن يقر السلام في القارة الأمريكية!! فليت شعري ماذا كان يكون وقع هذا الطلب في نفوسكم! يا فخامة الرئيس)؟! وبالتالي يرفض الطلب الأمريكي بالتعامل مع (إسرائيل) موضحاً أن (الحرب القائمة في فلسطين ليست حرباً أهلية كما ذكرتم ولكنها حرب بين العرب أصحابها الشرعيين وغزاة الصهيونيين)، وراسما شكل العلاقة مع عرب فلسطين بالقول أننا (لن نتراجع عن تأييدهم بكل ما أوتينا من قوة حتى نبدد أحلام الصهيونيين وأطماعهم في بلادنا إلى الأبد).
ويضيف بشجاعة وبلا وجل أو حذر (أما ما ذكرتم من المصالح الاقتصادية التي تربط بلدينا فاعلموا أنها أهون في نظرنا من أن نبيع بها شبراً من أرض فلسطين العربية لمجرمي اليهود، ويشهد الله أنني قادر على أن اعتبر آبار البترول كأن لم تكن، فهي نعمة ادخرها الله للعرب حتى أظهرها لهم في الزمن الأخير، فلا والله تكون نقمة عليهم أبداً).
بل ونعود قليلاً بالتاريخ إلى الوراء، إذ يقول الملك عبد العزيز عام 1937 وبنفس الأسلوب المقارن الذي لم يفارقه، في خطاب لأحد المستشرقين: (إننا نشعر اليوم، ويشعر معنا كل قومنا بالقلق العميق حول القضية الفلسطينية وسبب قلقنا وانزعاجنا هو الموقف الغريب لحكومتكم البريطانية، وهم يلعبون في نفس الوقت على عقول الجماهير البريطانية العاطفية بأن يزعموا لها أن أنبياء العهد القديم تنبؤوا بأنهم أي اليهود سوف يرجعون إلى أرض الميعاد، أو أنهم بنو إسرائيل المطاردون الهائمون على وجوههم ينبغي ألا يحرموا من حقهم في أن يكون لهم مكان صغير من العالم يريحون فيه رؤوسهم المثقلة. كيف يا ديكسون ستكون الحال مع شعب اسكتلندا، إذا أعطى الإنجليز أرضه فجأة لليهود؟) محذراً أن ذلك (سوف ينتج صراع أبدي مع العرب... لأن اليهود المصرين على التوسع سوف يتآمرون منذ اللحظة الأولى، ولن يهدأ لهم بال حتى يرسخوا العداء والصدام بين بريطانيا والعرب...)، مطالباً بعدم دعم إنشاء جيش صهيوني سيكون عدواني ومطالباً بالحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ثم مشاركاً في الحرب ضد الغزو الصهيوني.
وفي إطار الوعي والدرس والرؤية الحصيفة كان الملك فيصل قد قال عام 1966 محذراً من المخاطر الاستعمارية والصهيونية: إن هدف الوجود الصهيوني الاستعماري هو إبقاء الأمة العربية في حالة ضعف وعجز (لتخليد أهدافهم ونواياهم الاستعمارية والحربية ضدنا....)، فيما أكده الملك فهد أيضاً- كمثال - أمام الرئيس الأمريكي والروسي عام 1988م، بمعنى نريد الإشارة إليه وهو أن فلسطين كانت حاضرة لدى القيادة السعودية في كل المناسبات والأوقات والمجالات.
ولمزيد من الاقتباسات الهامة فإن الأمير سلطان بن عبد العزيز قد أوضح في أحد خطاباته خط المملكة التاريخي في تعامله مع فلسطين عندما قال (إن المملكة لن تتراجع عن خطها المرسوم منذ عهد المغفور له الملك عبد العزيز في دعم القضية الفلسطينية)، ولا يكتفي بهذه الجملة بل يتحمل التبعات عندما يقول: (مهما كلفها من جهد أو مال أو دماء....)، وعندها يضيف الملك خالد بالقول: أن المملكة (جادة ومخلصة بكل إمكاناتها لنصرة فلسطين)، ما كان واستمر قولاً وفعلاً.
هذا الدعم الأخوي المعنوي والعسكري والاقتصادي والسياسي والإعلامي (في الإعلامي قد نفرد ورقة منفصلة) السعودي الرسمي منه والشعبي ارتبط بالقضية الفلسطينية منذ ما قبل النكبة عام 1948، وما قبل (م.ت.ف) وحركة فتح، وتكرس وتطور، وكان للرئيس ياسر عرفات جولات وصولات لم تقتصر على البوابة التي فتحت منذ العام 1967م إذ كانت أول شحنة أسلحة شرقية تصل الفدائيين بتمويل سعودي، وبوساطة مصرية مع القيادة السوفيتية آنذاك، بل وامتدت العلاقات كما ذكرنا لتطال كل المناحي.
لا يكف الرئيس الفلسطيني والقيادة عن توضيح الموقف ذو الطابع المتجذر والعميق مع المملكة ودورها الفاعل في دعم القضية، ولنا أن نقتطف في ذلك مما قاله الرئيس أبو مازن في برقية التعزية لوفاة الملك عبد الله عام 2015 إذ أكد على التقدير الكبير من فلسطين للسعودية قيادة وشعبا عندما ثمن (المواقف المبدئية والدعم اللامحدود الذي قدمه الفقيد -ومن ورائه المملكة- لفلسطين وشعبها).
يقول ياسر عرفات عام 1984 أي بعد صمود بيروت (1982) وقبل الانتفاضة (1987-1993)، وذلك كنموذج فقط: (إننا لن ننسى موقفين هامين للمملكة وقفهما جلالة الملك خالد - رحمه الله - أولًا وجلالة الملك فهد ثانياً.. وهما موقفهما معًا بجانب المقاومة في حصار بيروت.. ثم موقف جلالة الملك فهد بجانب المقاومة في حصار طرابلس، وهذان الموقفان وغيرهما كثير يوضحان إلى أي درجة من الاتفاق والتعاون تقوم العلاقات بيننا وبين إخواننا في المملكة).
دأب الرئيس الخالد ياسر عرفات في الاجتماعات معنا كهيئة تعبئة وتنظيم لحركة فتح يرأسها هاني الحسن، أواخر حياته في رام الله على الطلب منا جميعاً- كما من غيرنا- أن تستمر العلاقات مع المملكة قوية وأصيلة وأخوية وثابتة رغم ما هو معروف عنه من انتقادات لاذعة لعدد من الأنظمة (غالبها انهارت اليوم) إلا أنه كان لم يكف في هذه اللقاءات عن تذكر صولات الملك فيصل والملك عبدالله وغيرهما في المجال الدولي مع فلسطين.
ولا يكف الرئيس أبومازن بالمقابل في اجتماعاتنا اليوم في المجلس الثوري لحركة فتح دورياً عن الإشادة بالموقف السعودي المتميز والمتفرد مقارنة بمعظم الدول العربية الأخرى.
أبعد كل هذا يجوز لنا أن نستمع لتحريضات أو تخريصات أو أكاذيب هنا أو هناك تقلل من قيمة هذه العلاقة الأخوية والمبدأية والجادة والتاريخية، أو نفترض أن السياسة السعودية تنحاز لطرف ضد آخر كما يروج البعض، أو أن فلسطين بقياداتها على اختلافاتها لا تعي الدرس السعودي في الوحدة والدرس الفلسطيني في النضال وتواصله كقواعد للنهوض؟
فالمملكة العربية السعودية ملكاً وحكومة وشعباً دائماً وأبداً مع فلسطين الشعب والقضية والقيادة الواحدة وليست مع فصيل ضد فصيل، هذه هي المواقف المشرفة الثابتة والدائمة والمستمرة للمملكة من فلسطين وشعبها، فهي قدوة لجميع الدول الشقيقة والصديقة.
- عضو المجلس الثوري لحركة «فتح» رئيس وحدة الدراسات الفكرية والإستراتيجية