ثمة مقولة علمية معروفة في تاريخ الأوساط العربية بين المنطق والنحو؛ ومفادها: أن للغة منطقًا، وأن للنحو الأساسَ لكل منطق، وقد يغلب النحوُ المنطقَ. وتتمثل هذه المقولة في القصة المشهورة التي غلب فيها أبو سعيد السيرافي (النحوي) متى بن يونس (المنطقي) في الجدال حول أيهما أكثر عمقًا في تفسير الواقع؛ المنطق أم النحو؟
ومررتُ كثيرا بعد هذه القصة على سجالات طويلة بطول السنين القصيرة دارت بين اللغويين والنحويين المعاصريْن وبين أبحاث أجنبية على مدى عشر سنوات في أبحاث ومواقع شبكية حول أقسام الكلم (أو الكلام) لأحياز الوحدات المعجمية العربية في النص العربي. والاصطلاح على هذا التقسيم بـ “أقسام الكلم” قديم سابق لمصطلح “الكلام”. ومصطلح “الكلم” قد أثبته سيبويه في كتابه “الكتاب”، ووظفه ابن مالك في عجز ثامن بيت في الألفية مع تقدم كلمة “كلام” في: (كلامنا لفظ مفيد كاستقم) واختصاصها للنحاة دون اللغويين كما يقول بعض النحويين العرب المعاصرين. وتوالت الشروح في كتب النحويين واللغويين المعاصرين في التفريق بين مصطلحي “الكلم” و”الكلام”، وتلت ذلك كلَّه محاولاتٌ تضيف قسما رابعا تارة وقسما خامسا تارة ثانية إلى أن جعلها تمام حسان سبعة أقسام في كتابه: “اللغة العربية: معناها ومبناها” تارة ثالثة. وظهرت في المنتديات اللغوية وقليل من الأبحاث تفسيرات تُبرّر موقف تمام حسان من استعمال هذا المصطلح بديلا عن مصطلح “الكلم” بكون الأول مميِّزًا لمقومات constituents الكلام ووحداتها المعجمية في النظم اللغوي الطبيعي الوصفي، وبكون “الكلم” مصطلحًا فلسفيًا عموميًا لسلوك هذه الوحدات اللغوية ذات الوقع المنطقي من حيث الساكن (الاسم) والمتحرك (الفعل) والربط بينهما (الحرف). وعلى أية حال يكون الاتجاه إلا أن تقسيم الكلام إلى سبعة يعد في حد ذاته ناقصا إن كانت القضية المدروسة هي قضية أصناف قواعدية لوحدات معجمية متنوعة بتنوع عناصر الكلام، وبشكل تفصيلي أكثر: بتنوع أبواب كتب النحو العربي القديمة ومباحثها وشروحها.
وفي مواقف البناء الأكاديمي، تخبرنا التجارب الأكاديمية وبيئاتها وأجواؤها المؤسسية المؤثرة على فكر الباحث وبما يناله الباحث نفسه في أوساطها بضرورة الكشف عن سبب تصنيف تمام حسان لتلك السبعة، ففي مواقف تمام حسان في أثناء دراسته في بريطانيا، وتأثره بالمدرسة السياقية الفيرثية، واكتسابه تفسيرات هاليداي (تلميذ فيرث) للتنوع التصنيفي القواعدي للوحدات المعجمية، انعكس ذلك كله على ما مقولته في كتابه المذكور، على الرغم من أنها في حينها كانت لا تُراوح مضمار النحو العرفي (أو التقليدي) traditional grammar للغة الإنجليزية.
وفي الجهة المقابلة لكل ما ذكرناه آنفا، لن نقع-نحن اللغويين العرب-على كلمة “الكلم” في السياقات الترجمية بين اللغتين العربية والإنجليزية، ولن نتصدى إلا لمصطلح “كلام” ومقابله في الإنجليزية speech، ولو ترجمنا مصطلح “الكَلِم” إلى الإنجليزية لاستعملنا المقابل speech نفسه، والأخير مصطلح معلوم أثره في الإنجليزية لأنه دال مباشر لمدلولات: الكلام، والحديث، والخطاب (والخطاب هنا خاص ومحدود لبعض السياقات فقط لمصطلح speech). إذن؛ نحن هنا أمام سياق دقيق الخصوصية للدرس اللغوي الإنجليزي، وعمومي الاستعمال للدرس اللغوي كله، ونقل مفاهيمَ على هذا المنول إلى العربية قد يعتريه خطورة لأن الإسقاطات التفسيرية والتعليلية لظواهر سلوكيات الوحدات المعجمية المختلفة باختلاف لغاتها (كونها سلوكيات استعمالية!) من حيث صنفها النحوي لن تكون متطابقة بشكل تام لبعض تلك الدقائق الخصوصية.
كانت ظروف المدارس اللغوية الغربية للغات الأنجلوفرانكفونية والرومانية تحتكم لمناهج ذات نطاق واسع مفتوح لصالح التحليل الضملغوي (نظام اللغة ذاته) والتحليل الفولغوي (أنظمة اللغة الاجتماعية والنفسية والسياقية والبيئية) والتحليل البيلغوي (التحليلات التقابلية بين لغة ولغة أو بين مستوى لغوي وآخر داخل اللغة الواحدة)، ونتج عن ذلك تضخما متشعبا وأبحاث كثيرة جدا ذات نفع كبير للغويات واللغويات التطبيقية وتقاطعاتها بين اللغة نفسها والمجتمع والنفس والآلات، ولم يكن حال البحث المتكدس فيها مقتصرا على لغوي غربي دون آخر، بل كان هذا التكدس المعرفيُّ الصعبُ الاستدراك يقود إلى تفسيرات إضافية أو نظريات لغوية/تاريخية/مقارنة/بنيوية/وصفية/تقابلية تحمل مقولات شروحية تكوّن أولُ مقولة في جديدها نهايةً لمقولة سابقة في قديمها. ظهرت من بعدُ الوظيفية والسياقية والتحليلية وتلتها النظرية التوليدية والتحويلية على يد نعوم تشومسكي Noam Chomsky وظهرت الأنحاء اللغوية المنطقية من شجرية وتوزيعية وغيرهما، ولم يكن منطلق تشومسكي فيها لغويا، بل رياضيا باختصاص في علم المنطق والفلسفة، كونه طالبا فيلسوفيا إلى أن نال الدكتوراه في الفلسفة في جامعة بنسلفانيا في عام 1955م. وتربّعه على الفلسفة قد مكنته من القبول في معهد ماساشوستس للتقنية MIT بصفته زائرا ومشاركا وباحثا ومن ثم أستاذا بعد حين في قسم اللغويات والفلسفة قبل تخرجه من الدكتوراه. وفي التنظير المنطقي الرياضي اللغوي-ومن هنا كانت بداية تفسير المنطق (الأنطولوجي) الذي يستلزم وضع منظومات تنظيرية كلية-ظهرت مصطلحات مفاهيمية رياضية تنطلق من مقولات رياضية للتراكيب الفعلية والاسمية والاستفهامية وتحليلها من جهة: السعة التوليدية البيولوجية العقلية الإنسانية غير المحدودة ومِيْكانِزْمَاتها العميقة (بدون تفسير كمي تعليلي طبعا كما تطلبه لغويات المدونة الحاسوبية corpus linguistics) على مستوى الدلالة، ومن جهة الثانية: القدرة التحويلية الفطرية السطحية على مستوى الصوت والاشتقاق. ونظريات تشومسكي الكلية لم يعد لها مكان في البحث التعليلي الشمولي اللغوي الكمي والنوعي للنصوص اللغوية الرقمية الضخمة المحوسبة في المدونات الكبيرة الحجم، لكنها تركت كليات جوهرية شبيهة بمن يقول: في الكون أفلاك وكفى، ومن بعد ذلك، يترك المجال للبحث الشمولي بأدوات فلكية حديثة تكشف لنا أجزاء تلك الأفلاك وأبعادها وظائفها، وهذا ما يحدث الآن في مجال لغويات المدونات الحاسوبية corpus linguistics.
تبلورت بعد ذلك اللغات البرمجية الرقمية الحاسوبية لصالح التحليل اللغوي، وهنا حري أن يعلم القارئ بأن الحاسوبيين المهتمين بمعالجة اللغات قد استفادوا كثيرا من نظريات تشومسكي في بداية انطلاقته في البحث عن كيفيات تفسيرية لعناصر اللغة ووحداتها بشكل فلسفي يجعل من مقدمات المنطق لسانا يعيد استنطاقها بالكلية. وفي حقل التزاوج بين الحاسوبيين واللغويين، وولادة حقل “لغويات المدونة الحاسوبية” corpus linguistcs تبعا لذلك التزاوج، بدأت الخطوة الأولى بتوسيم أقسام الكلام part-of-speech tagging، وهي خطوة أولى تلتها مراحل لاحقة معقدة وطويلة الصناعة البشرية والحاسوبية معا، وتوسيم أقسام الكلام-وبغض الطرف عن تطبيقاته ومبادئه المتعددة بتعدد المبادئ البحثية-يتبني فكرة أولية أساسية؛ وهي: كيف يتعرف المعالج الحاسوبي لهوية الحيز slot للوحدة المعجمية (سواء كانت كلمة نوعية type أو كلمة فعلية token) مع أحيازها المتصاحبة والممتدة في سلسلة تركيبية محوسبة نصطلح عليها بالنغرامية (التتابع اللفظي n-grams) وتمتد بين كلمة و5 كلمات قبل ذلك الحيز وبعده (أو 15 كلمة من قبل ومن بعد لغرض التحليل الخطابي النقدي) في نصوص عدد كلماتها بين المليون والمليار. وبما أن لغةَ الحاسب رقميةٌ لصالح معالجة العربية (واسمات ومجزئات تتضمن علامات رقمية من فواصل ورموز مختلفة باختلاف قسم الكلم) إلا أن ذلك يستدعي أن تطول أيضا قصة تقسيم أصناف الكلام بمناهج علم الحاسب المتعارف عليها، لأنها تتراوح بين خوارزميات الحاسب التي يعرفها الحاسوبيون وبين واقع اللغة العربية الذي يختلف فيه النحويين بمدارسهم ويتكبد فيها اللغويون، وما طرأ إلى الآن في حقل تحليل أقسام الكلام للعربية دقيق ومذهل تجاوز تقسيم تمام حسان، ففي واسمات اللغة العربية المشهورة مثل واسمات ستانفورد Stanford ومدى MADA وأميرة AMERA تراوحت التفسيرات لسلوك حيز كل وحدة معجمية في النص بين ثلاثين وخمسين قسما.
وتتلخص المحصلة النهائية لكل هذا السياق بسجاله الطويل المشتت وسجاله العريض الصناعي في توظيف الدكتور الشمسان لمصطلحي “الكلم” و”الكلام” الذي تجاوز مفهوم “الكلم” نفسه بوصفه الأخص ومفهوم “الكلام” بوصفه الأعم، وذلك في مقالته التي نشرها في الصحيفة في يوم السبت بتاريخ 11 يوليو 2015 بعنوان: “القسمة الشجرية للكلم”؛ حيث استعمل الشمسان مصطلح “الكم” للكلم (التفسير الفلسفي) ومصطلح “الكيف” للكلام (التفسير الحاسوبي)، والكيف التعليلي للكم المنطقي ليسا مسألة خصوص وعموم على الإطلاق كما يقول من ردوا على الدكتور الشمسان، ومصطلح “الكيف” الرياضي مختلف تماما عن المعمول به في الدراسات الإنسانية، والمقتصر على كيفيات عشوائية غير تابعة لمجمل الكم والكيف المنطقيين.
يقول تشومسكي في مقدمة كتاب “نحو نظرية لسانية عربية حديثة لتحليل التراكيب الأساسية في اللغة العربية” لمازن الوعر (1992): وقد علق تشومسكي على كتابي بقوله: “...لقد دهشت بشكل خاص بتلك التعليقات اللغوية التي وردت في أثناء هذه الدراسة، والتي قالها اللغويون العرب القدماء!”. إن كان ما ذكره تشومسكي صحيحا (وهو صحيح) فإن مازن الوعر قد قدم لنا الكليات باللغة العربية من العربية ومن تشومسكي، وقدم لنا أبو أوس الشمسان مفهوم مصطلح “الكلم” بـ “الكم” ومصطلح “الكلام” بـ”الكيف” بعمق وبداية للبحث اللغوي النحوي الجاد للعربية التاريخية والحديثة من أجل أن يتسعا لحقل لغويات المدونات الحاسوبية corpus linguistics، وما ضر اللغة الصينية في تحليل مختصيها لها في قديمها الذي يطول 3000 سنة وفي حديثها المعاصر، فكلا التحليلين بامتدادهما ما زالا حاضرين حتى يومنا هذا بقوة الاقتصاد الصيني.
سلطان بن ناصر المجيول - أكاديمي بجامعة الملك سعود مختص بالمدونات الحاسوبية