عندما وارى الثرى جسدها الطاهر استرجعتُ ذكريات الماضي مع هذه المرأة العظيمة التي لم تر عيناي أجمل ولا أرق ولا أطيب منها.
فحاولت أن أكتب عنها فلم أجد في سيرتها أي شهادة علمية أو منصبا وظيفيا يمكن أن أتحدث عنه...! لكني وجدت ما هو أعظم من ذلك بكثير ألا وهو أن هذه المرأة العظيمة كان تمتلك الإيمان الراسخ بالله عز وجل والرؤية الثاقبة برسالتها السامية كأم ومربية في هذه الحياة. وقد ترجمت كل ذلك بشكل دقيق أثناء مسيرة حياتها الحافلة بالعطاء التي لم تخل كذلك من التحديات والصعوبات.
تزوجت- رحمها الله- وهي صغيرة السن، ولكن ذلك لم يمنعها أن تتحمل مسؤوليتها بكل اقتدار وتفان وتكتسب الحكمة والعلم وتقف مع الوالد وتسانده في حياته العلمية والدعوية والقضائية. فكانت نعم المعين والمساند له في كل شؤونه، ولذلك لا أستغرب أبدا عندما يقال أن «خلف كل رجل عظيم امرأة»!
كما كانت- رحمها الله- نعم العون لأبنائها في تذليل كل المصاعب التي واجهتهم في الحياة والعمل على تربيتهم التربية الحسنة. وكانت المستشار الحكيم لكل أفراد البيت في كل ما كان يشغل بالهم من أمور الحياة.
كانت أمّا رؤوما وحضنا دافئا لأبنائها وبناتها، لا تدخر جهدا في التضحية من أجلهم ومساعدتهم في كل ما واجههم من صعاب في هذه الحياة.
سمتها العظيمة أنها كانت تحب الجميع وتكرم القريب والبعيد وكان الجميع يبادلها المحبة والاحترام. ولذلك كانت توصف ممن عرفها أنها «ملاك في جسد إنسان». ابتعدت عن القيل والقال وفضول الكلام وجعلت نصب عينيها تحقيق رسالتها السامية في هذه الحياة.
كانت تكرم القريب والبعيد، وكان الجميع يشعر بالسرور والفرح عندما يجالسها أو يستمع إلى حديثها. كلامها تنبع منه الحكمة والنصح، وكانت توصل رسالتها ونصحها إلى مستمعيها بأحب الطرق.
اكتسبت الحكمة والعلم من والدنا- رحمه الله- الذي شبّ على طلب العلم على يد عدد من العلماء الراسخين في المجمعة وأثناء رحلته العلمية إلى دار التوحيد بالطائف وكلية الشريعة في مكة المكرمة، كما كانت نعم الرفيق والصاحب له أثناء مسيرته القضائية في منطقة الدوادمي أو في هيئة التمييز بمنطقة الرياض، كانت تستمع إليه وتكتسب منه العلم والحكمة والخبرة والدراية.
عرفها القريب والبعيد بحبها لعمل الخير ومساعدة المحتاجين والأسر الفقيرة. فكانت لا تدخر وسعا في مساعدة المحتاجين لإظهار السرور على محياهم. وكانت تكرم النساء اللاتي يأتين إلى البيت ويترددن عليها وتحاول ما استطاعت أن تلبي حاجاتهن وترضيهن.
كانت عابدة لله متبعة لأوامره منتهية عن نواهيه -ولا نزكي أحدا على الله-، تقضي شهر رمضان بجوار بيت الله الحرام. وكانت تصوم النوافل وتقوم الليل وتتصدق على القريب والبعيد بما أجاد الله عليها من مال أو طعام. وقد قامت ببناء مسجد من مالها في مسقط رأسها في مدينة المجمعة وقامت بتفطير الصائمين فيه بعد أن أتم الله بناءه.
اشتد عليها المرض في السنوات الأخيرة من حياتها ولكنها كانت صابرة ومحتسبة، لم تشتك أو تتضجر، وقد أكرمها الله عز وجل أن جعل وفاتها مع تمام شهر الصوم والقيام في يوم الخميس التاسع والعشرين من هذا العام 1436 هجري.
لَعَمْرِي لَقَدْ غَالَ الرَّدَى مَنْ أُحِبُّهُ
وَكانَ بودي أنْ أموتَ وَ يسلما
وَ أيُّ حياةٍ بعدَ أمًّ فقدتها
كَمَا يفْقِدُ الْمَرْءُ الزُّلاَلَ عَلَى الظَّمَا
سقتكِ يدُ الرضوانِ كأسَ كرامةٍ
منَ الكوثرِ الفياضِ معسولة َ اللمى
عَلَيْكَ سَلاَمٌ لاَ لِقَاءَة َ بَعْدَهُ
إلَى الْحَشْرِ إِذْ يَلْقى الأَخِيرُ الْمُقَدَّمَا
صلينا على الوالدة شيخة بنت عبدالله بن محمد الناصر في يوم الجمعة، يوم العيد، يوم توزيع الجوائز... وقد ماتت- رحمها الله- متشهدة وسبابتها مرفوعة إلى السماء وكأنها تقول «إلى الرفيق الأعلى». رحمها الله رحمة واسعة وقدس الله روحها وأنزلها منازل الأبرار وتقبلها في الصالحين.
- د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز الربيعة