د. هلال محمد العسكر ">
ظاهرة التسرب من المدارس موجودة في جميع البلدان. ولا يمكن أن يخلو واقع تربوي من هذه الظاهرة، إلا أنها تتفاوت في درجة حدتها وتفاقمها من مجتمع إلى آخر، ومن مرحلة دراسية إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى. كما أنه من المستحيل لأي نظام تربوي أن يتخلص نهائياً منها مهما كانت فعاليته أو تطوره. هذا يعني أن نسبة وحدّة وجودها هو الذي يحدد مدى خطورتها. والمتعمق في هذه الظاهرة في الواقع التربوي، يلحظ أنها منتشرة في كافة المراحل التعليمية وبصورة متفاوتة، وفي كافة المدارس بغض النظر عن نوعها وفي كافة المناطق التعليمية وبين كافة أوساط الطلبة من ذكور وإناث وبين أوساط كافة الطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
يعد التسرب هدرًا تربويًا هائلاً وتأثيره سلبي على جميع نواحي المجتمع وبنائه؛ فهو يزيد من حجم الأمية والبطالة ويضعف البنية الاقتصادية الإنتاجية للمجتمع والفرد، ويزيد من الاتكالية والاعتماد على الغير في توفير الاحتياجات. ويزيد من حجم المشكلات الاجتماعية من انحراف الأحداث والجنوح كالسرقة والاعتداء على الآخرين وممتلكاتهم وغيرها من الجرائم، مما يضعف خارطة المجتمع ويفسدها، ويؤدي إلى تحول اهتمامه من البناء والإعمار والتطور والازدهار إلى الاهتمام بمراكز الإصلاح والعلاج والإرشاد، والى زيادة عدد السجون والمستشفيات ونفقاتها ونفقات العناية الصحية العلاجية. كما يؤدي تفاقم التسرب إلى استمرار الجهل والتخلف، وبالتالي سيطرة العادات والتقاليد البالية التي تحد وتعوق نمو وتطور المجتمع.
وقد حذرت مراكز وهيئات أممية تعليمية وتربوية من ظاهرة التسرب المدرسي في العالم، وبينت أنها السبب الرئيس وراء جرائم القتل والسرقة والمخدرات، باعتبار أن المتورطين فيها شباب تركوا مقاعد الدراسة، كما كشفت بعض الدراسات تورط أطفال في مختلف أنواع الجرائم، بينهم تلاميذ تركوا التعليم في عمر مبكر، حيث كانت جرائم الضرب والاعتداء المتعمّد من بين أكثر الجرائم التي يتورط فيها الأحداث، تليها الجرائم المتعلقة بالآداب العامة، ثم تعاطي المخدرات وحبوب الهلوسة، وتخريب أملاك الغير، وحتى الاعتداء على الأهل. جرائم القتل، وغيرها من جرائم العنف المختلفة. إذ يسهل انحراف هؤلاء وارتكابهم الجرائم، بخاصة أنهم يعانون من الفراغ، وعدم التقبل والتعرف إلى مشاكلهم، ووضع الحلول المناسبة لهم، مما يؤدى إلى وجود فجوة بينهم وبين المجتمع المدرسي، ويكون ذلك سبباً لعدم الثقة في العملية التعليمية برمتها واللجوء إلى مجتمعات أخرى علها تكون أكثر تقبلاً لهم.
إن أسباب ظاهرة التسرب كثيرة ومتشعبة. وجهات كثيرة تتحمل المسؤولية؛ المؤسسات التربوية والأسرة ليست بريئة تماماً. كما أن الأوضاع الاقتصادية فرضت على بعض الأسر خيارات كهذه، من دون أن يكونوا راضين عنها. ومن هنا أصبح مصير التلاميذ في ظل خطر التسرب مسؤولية المجتمع ككل، وليس النظام التربوي وحده. هذا بالإضافة إلى عدة أسباب أخرى، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:
- أوضاع العائلة الاقتصادية الصعبة، والغلاء والبطالة، مما يضطرهم إلى إجبار الأطفال على النزول إلى سوق العمل.
- تفكك العائلة الناتج عن الطلاق أو كثرة الخلافات الزوجية.
- تدني وعي هذه الشريحة من المجتمع بأهمية التعليم.
- الرسوب المتكرر وإهمال الأهل.
- بيئة المدرسة المملة والطاردة.
- إلغاء مدارس ومعاهد التعليم الفني التي كانت تمثل ملاذا مهنيا لذوي الاحتياجات والقدرات الخاصة، ولعدم الراغبين في التعليم الأكاديمي.
حقيقة دور الأسرة في الحد من تسرب الأبناء من المدرسة مهم جدا، ويوجب العمل على توثيق العلاقة بين البيت والمدرسة من خلال التعاون مع الإدارات ومراكز البحوث المعنية بدراسة الظواهر السلبية للطلاب، والمشاركة الفاعلة في اجتماعات مجلس الآباء والمعلمين والتنسيق مع كافة أفراد المجتمع من مؤسسات وأفراد لحل المشكلات التربوية التي تواجه المدرسة والطلبة.
كما أن دور المدرسة كجهاز إنذار مبكر للمجتمع مهم للغاية، كونها تمثل عينة حقيقية وصادقة للمجتمع، إذ يجب أن يكون لها دور فاعل في البحث والرصد والتحليل المستمر لكل ما يطرأ من مظاهر سلبية على سلوك الطلاب، ليتمكن المجتمع من معالجة مثل هذه السلبيات مبكرا قبل استفحالها.
قبل الختام، نرى أن مشكلة التسرب المدرسي هي مشكلة وطنية تتطلب أن تتضافر كافة الجهود لإيجاد حلول ناجعة للطلبة المتسربين، وأنه بالإضافة إلى الدور الذي تقوم به وزارة التربية في هذا المجال، المطلوب أيضاً من المؤسسات الرسمية وبالتحديد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ومن مؤسسات المجتمع المدني أن تضع خطة عمل وطنية لإعادة تأهيل المتسربين، ونعتقد أن إعادة فتح والتوسع في المدارس والمعاهد الفنية للمرحلة المتوسطة والثانوية التي حولتها المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني قبل سنوات، إلى كليات تدريب، نسبة التسرب فيها أعلي من نسبة التسرب في التعليم العام- خير وسيلة ناجعة للحد من تسرب الطلبة، وخاصة الذين لديهم صعوبات التعلم في التخصصات الأكاديمية، وبالتأكيد وجود مدارس مهنيّة قريبة من أماكن سكن الطلبة سيسهم كثيرا في الحد من هذه الظاهرة. بدليل أن الشباب حينما كانت هذه المدارس والمعاهد الفنية (التجارية والزراعية والصناعية) منتشرة في ربوع الوطن، تحت مظلة التعليم وليس مظلة التدريب، لم نكن نسمع بمشكلات تسرب ولا جرائم يرتكبها الشباب، كما نرى ونسمع اليوم.
ختاماً، كما نحارب الجريمة بكافة أشكالها وأنواعها، ونعمل على تجفيف منابعها، يجب علينا أن نحارب أيضا التسرب المدرسي الذي أثبتت الدراسات أنه يمثل أحد أهم منابع الجرائم في المجتمع، وذلك من خلال أولا تغيير نظرتنا التقليدية لدور ومهام المدرسة في المجتمع، ودعمها وتمكينها من القيام بمهام أكثر فاعلية كجهاز إنذار مبكر ومركز معلومات تطويرية وتنموية للمجتمع، وأيضا من خلال إيجاد تعليم متنوع، حتى يجد الطلاب بيئة مشجعة وفرصا تعليمية متنوعة تلبي كافة الطموحات.