تغييب العقل مدخل التفكر الإرهابي ">
يروم تنظيم «داعش» التركيز على ممارسات العنف والتعذيب والانتهاكات الجسدية التي يرتكبها في حق المخالفين والمناوئين، وتضخيمها إعلامياً عبر هزّ الوجدان الجمعي من خلال فظاعة ما يرتكبه، إذ يحاول توظيف «العنف» كأحد أهم تكتيكات استعراض القوة وترهيب الخصوم عبر صناعة الصورة. وعلى رغم وجاهة هذا التفسير، إلا أن البعض يفسّر حالة التوحش الجسدي لدى «داعش»، بكونها مجرد إعادة إنتاج لأساليب التعذيب التي تبنّتها بعض الأنظمة السلطوية تجاه المعارضين، في إطار الاستناد إلى نظرية «العنف يولد مزيداً من العنف».
تركيز «داعش» على التعذيب الجسدي للخصوم، قد يُعتبر نتاجاً لإرث نظامَي صدام حسين في العراق، وحافظ الأسد في سورية، في التعامل مع المعارضة، خصوصاً أن عدداً كبيراً من المنضمّين إلى «داعش» تعرّضوا لهذه الانتهاكات الجسدية على يد السلطات الأمنية في سورية والعراق. فالنظام العراقي في عهد صدام حسين والنظام السوري في عهد حافظ الأسد ونجله بشار، يعدان نموذجاً لما يمكن أن يطلق عليه «الأبوية الجديدة»، والتي يُقصد بها ضعف المؤسسات الرسمية وهشاشتها، في مقابل قوة العلاقات غير الرسمية وغلبتها في إدارة شؤون الدولة. ولضمان توطيد حكم هذه الأنظمة، يلجأ النظام إلى فرض سيطرته على كل جوانب الحياة الرسمية وغير الرسمية، بما فيها حياة الأفراد الشخصية، مع فرض عقوبات صارمة على مخالفي قواعد الدولة، تصل إلى حدّ الانتهاكات الجنسية.
ومن أبرز مظاهر الانتهاكات الجنسية التي كانت تُستخدم لقمع المعارضين، الانتهاكات الجنسية المذهبية، حيث قامت السلطات العراقية بعد نشوب الثورة الإيرانية عام 1979، بترحيل ما يزيد عن ألف إيراني، مع إيداع آلاف آخرين في السجون، التي تعرّضوا فيها للعديد من أنواع التعذيب. وقد تم الإعلان عن مكافأة مالية لكل رجل عراقي يطلق زوجته إذا كانت من أصول إيرانية، ومكافأة مماثلة لمن يتزوج من أرامل الجنود العراقيين الذين قتلوا أو فقدوا في الحرب.
وعلى رغم أن النظام السوري حاول إبعاد شبهة الطائفية والسلطوية عن نفسه بعدد من الوسائل، منها زواج بشار الأسد المنتمي إلى الطائفة العلوية من امرأة سنية، وإصداره قانوناً يحرّم الإتجار بالبشر، فإن الواقع يدل على خلاف ذلك واعتقل عدداً كبيراً من المعارضين، إضافة إلى انتهاكات جنسية ضد المعتقلين. فيما زادت حدة هذه الانتهاكات بعد اندلاع الثورة السورية في 2011، إذ ذكر أحد تقارير الأمم المتحدة أن عدداً كبيراً من المعتقلين كانوا يتعرضون لاعتداءات جنسية، إضافة إلى الاعتداء على الأطفال القُصَّر أمام ذويهم وحتى قتلهم (حمزة الخطيب).
وتمثل عمليات الإتجار بالبشر أحد الموارد الرئيسة التي يعتمد عليها التنظيم في تمويل نشاطاته، فقد اتّجه إلى خطف العديد من النساء، والإتجار بهن، بغرض استخدامهن في أعمال منافية للآداب، وقد عثرت الميليشيات الكردية على 600 سيدة مخطوفة من جانب التنظيم بعد استرداد هذه الميليشيات سدّ الموصل، وتم اكتشاف أنهن كُنَّ يتعرضن لكل أنواع الانتهاكات الجنسية، مع القيام بتأجيرهن للأماكن التي تُمارس فيها أعمال منافية للآداب.
في السياق ذاته، وعلى رغم أن «داعش» يحرّم الاعتداء على الأطفال، وإقامة العلاقات الشاذة، مع تطبيق عقوبة قاسية على من يقوم بهذه الأفعال بإلقائه من المباني المرتفعة، فإن التناقض يتّضح بمراجعة ممارساتهم المختلفة، فقد ذكر تقرير للأمم المتحدة قيام أعضاء التنظيم بالاعتداء على العديد من الأطفال بعد قيامهم بمهاجمة مخيمات الإيزيديين في جبل سنجار. كما تم الكشف عن قيام التنظيم بالاعتداء على المنضمّين الجدد من الرجال، وتصويرهم، بهدف ابتزازهم ومنعهم من مغادرة التنظيم.
وإذا كان الزواج المبكر أو زواج القاصرات منتشراً في المناطق الريفية أو المدنية الأقل تحضراً في كل من سورية والعراق، إلا أن وجود التنظيم ساهم في انتشار هذه الظاهرة في مناطقه، بسبب الحاجة إلى تلبية احتياجات أنصاره ومواليه، حيث يقوم بعض الأهالي في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، بإجبار فتياتهم على الزواج من أعضاء التنظيم في مقابل بدل مالي.
في المقابل، يوفر هذا الزواج الحماية لأهل الفتاة. كما قام عدد من شيوخ القبائل باستخدام هذا النوع من الزواج لتعزيز التحالف السياسي بينهم وبين «داعش».
تظلّ الممارسات الجنسية والجسدية العنيفة في المجتمعات العربية، مندرجة تحت بند اللامفكَّر فيه في المخيال الجمعي العربي، على رغم حضوره أحياناً في بعض المجتمعات المغلقة، لا سيما ضد المرأة، لكن «مبالغة» تنظيم الدولة في استخدام العقاب الجسدي والجنسي والتفنّن في إبراز ما يشكّل محظوراً أو متحرجاً من إبدائه لدى أبناء المنطقة، تشير إلى غايات «إرهابية» يحاول من خلالها التنظيم «ضبط» المجتمعات الواقعة تحت سيطرته من طريق المساس في الشأن الأسري أو التلويح به، وهو في المقابل يحاول ترسيخ علاقاته بالحاضنة الاجتماعية له عبر الوسائل ذاتها، ليكون وسيلة للترهيب والترغيب في آن معاً.
نوف بنت طلال - جامعة الأميرة نورة