هناك حكاية قديمة تقول إنَّ أحد الأعراب خَرَجَ لأول مرة من عمق الصحراء، بعد أن سمع بأن هناك سوقاً يدعى «عكاظ» تجري فيه نشاطات تجارية متعددة ومباريات في قول الشعر، إلى جانب توفر مساحات وخيام للهو والشراب، والتعارف...
أثناء رحلته على ظهر ناقته وهو يطوي الطريق الرملي الطويل، لَمَحَ شيئاً يلمع وقد غطَّى الرمل بعض أجزائه، فنزل عن راحلته والتقطه متفحصاً، فإذا به إحدى الكؤوس اليونانية الذهبية الغنيّة بالزخارف المشغولة بحرفية عالية. أخذها بعد أن نفض عنها غبار الرمل وهو لا يعلم على الاطلاق قيمتها وندرتها مادياً وجمالياً، إلى جانب عدم معرفته لمعدن الذهب الخالص الذي صنعت منه هذه الكأس، ثم وَضَع هذه «اللقية» في الكيس - الخُرج - الذي يحمله، وكان من وقت لآخر يسأل من يمرّ بهم أو يمرّون به عن وجهة السير الصحيحة نحو السوق المقصود. أثناء وصوله إلى إحدى المحطات من الخيام «الظليليّة» التي كانت تقام للراحة والتزوّد بالماء، والجلوس في الظلّ، التقى شخصاً، تجاذب معه أطراف الحديث، ثم عَرَض أمامه الكأس وسأله عن أهميتها. دُهش الشخص الذي تبيّن أنه تاجر خبير - لما رآه من براعة في الصنع وجمال في الشكل وصفاء الذهب الخالص، وتيقّن سريعاً من سذاجة الأعرابي وانعدام معرفته، فاقترح عليه إذا كان راغباً في بيعه، وما هو الثمن الذي يطلبه! على الفور قال له الأعرابي: إذا كنتَ فعلاً تريد الشراء فأنا أطلبُ ثمناً قدره عشرة قطع نقدية، ولا أقبل أقل من عشرة!
وبحنكة ودهاء التاجر الخبير اصطنع الشاري التردّد وعدم الاكتراث، إلاّ أنه سرعان ما نَقَدَ الأعرابي القطع العشر وأخذ منه الكأس وانصرف في الاتجاه المعاكس!
تابع الأعرابي طريقه مسروراً بما حصل عليه ودخل سوق «عكاظ» المكتظ مبهوراً ومستمتعاً بما يراه لأوّل مرة، وبما يمكن أن يبتاعه ويحصل عليه من نقود ثمن الكأس. عند المساء دخل إلى إحدى «استراحات» التجار المسافرين للمبيت فيها، وكانت مكاناً تُعقد فيه الجلسات المسائية فيتحدث فيها التجار ويتسامرون ويتعارفون، ووجد الأعرابي نفسه بينهم واستمع إلى ما يقصُّون ويسردون من وقائع ونوادر وحكايا، وما له علاقة بالأمور التجارية و»شطارات» البيع والشراء، مما شجَّعه على أن يدلي بدلوه ويقصّ عليهم حكاية الكأس، وكيف أنه ببراعته وشطارته نجح في بيعها قبل أن يدخل إلى السوق! وعندما سأله أحدهم أن يعطيهم فكرةً عن شكل وحجم ومعدن الكأس، بدأ صاحبنا مستفيضاً بالشرح، ففهم التجّار فوراً قيمة وندرة هذه التحفة الرائعة، هنا تعالت الأصوات تسأله: بكم بعتها يا أخا العرب؟ فأجاب معتداً بنفسه، متشاوفاً بشطارته: لقد بعتها بعشر قطع من النقود المعدنية الصلبة!!
عند ذلك صَرَخَ الجميع أسفاً وحرقةً وخيبةً: عشر قطع فقط؟ إنها تساوي ألوف أضعاف هذا الرقم! ثم رَدَّدَ أحد التجّار «اليهود» بخنَّة مبحوحة: عشر قطع يا ظالم؟ لقد فطرتَ فؤادي بهذا الرقم الهزيل، معقول؟ معقول؟ ما هذا الغباء؟
هنا جَمَدَ الدم في عروق الأعرابي فبَلَعَ ريقه وقال بصوت متهدجٍ مهزوم وقد خيَّم الصمت على الجميع: يا جماعة، يا إخوان... الحقيقة، الحقيقة، لو، أنا بعرف عِدّ لأكثر من عشرة، صدّقوني، لكنت طَلَبْتْ!!!
أيها القارئ العزيز، إذا كان سبب الخطأ هو الجهل المطبق، فلماذا نلوم الآخرين؟
وإذا كانت معارفنا محدودة وغير مواكبة للعصر والمعاصرة، فلماذا كل هذا الادّعاء الفارغ حين لم نأخذ من ماضينا جذوته المتوهّجة، بل أخذنا رماده الخامد! فنحن بكل صدق وصراحة وبساطة: «هالقد منعرف، وإلاَّ لكنّا طَلَبْنا!!».
- د. غازي قهوجي
kahwaji.ghazi@yahoo.com