التحولات بشتى أنواعها في عالمنا كثيرة حسب الأهواء والاعتقادات وتغير السلوكيات إنما هي منبثقة من قناعات يؤمن بها المرء حسب ما يراه حقاً أو باطلاً وقد تراه مؤمناً بقضايا يدافع عنها دفاع المستميت ثم بعد فترة من الزمن تكون من ماضيه الغابر الذي يحاول الهرب منه بكل الوسائل!..
ونحن في ذلك بين اثنين إما رجل قد جعل يده في عنقه مغلولة ثم بسطها كل البسط فخسر الدين والدنيا أو عكس ذلك؛ وهذان أمران كلاهما أمرّ من الآخر وإنما الأجمل أن تأخذ من هذا وذاك بقدر المباح فتكون وسطاً بين البين فلا إفراط ولا تفريط، ولكن ليس على مذهب المعتزلة قطعاً!. وشاعرنا وكاتبنا إحسائي المولد والنشأة تنسّك صغيراً وكان ذلك بداية الصحوة الدينية وظهور أشرطة الدعاة التسجيلية في الثمانينات الميلادية التي ألهبت حماس الشباب، كما يراها البعض فكان بدءاً بلباسه حتى معاملاته دينية صِرفة لا تقبل المرونة ولا تداخلات المذاهب الأخرى، فترك كرسيّ الدراسة واعتكف في المسجد حتى أصبح إمامه! وفي داخل نفسه وفؤاده وليداً خجولاً شاعراً وكاتباً فصيحاً بليغاً ينمو ويكبر مع الأيام يصارعه ويحدّثه عن الرومانسية وشعرائها وكتّابها والوصف والطبيعة والفنانين والرسّامين والرواية والدراما وكل الفنون بأشكالها وألوانها ويصغي ولكن بخجل ثم ينصرف عنه متعوذاً وهو بعد يختلس أوقاتاً ونظرات من هذا الكتاب وذاك!، ويأتيه مرات ومرات وهو خائف وجل من أن ينقلب على عقبيه ويكون قد باع آخرته بدنياه هكذا يتصوّر!!.. ولا يدري أنّ طبيعة الإسلام وقوانينه لا تتعارض مع ذلك إن كان مباحاً ليس فيه محرّم وإنما إيديولوجيا التشدد هي من أوهم بتلك الأخطاء !!وفكر المرء نفسه واعتقاده يُحرّم المباح وأقلّها يعتقد أن كل ذلك يصرفه عن العبادة!! ويكون عرضة للقيل والقال وسخرية الناس وسياط الأصدقاء والأصحاب! وظن السوء من القريب قبل البعيد عقدة اجتماعية لا مفر منها.
ومع تواتر الأيام أذعن لصاحبه وقبِل استدراجه ثم اكتشف أنه في عالم آخر وصاحبه لم يكن إلا الموهبة الكامنة التي تنتظر طريقاً معبداً تسير فيه نحو التوهّج وجذوة ظلت سنوات بنار ضعيفة تريد من ينفخ فيها حتى تكبر وتصبح ناراً متقدة تنير الطريق لأرجل قد ضيعتا الخطا في ممرات معوّجة وهو يسير على استحياء، فكان هذا عنوان إصداره الأول والذي يرى فيه أنه كان في غيبوبة استيقظ على أثرها على كنز من الفن المدفون في اللاشعور قال عن ديوانه على استحياء أستاذنا سعد البواردي :* على استحياء (مجلة يتوق إليها الذين يتملكهم الحياء فما يجعجعون.. وما يصرخون.. وما يقابلون الصياح بصياح كي لا يُغلبون.. على استحياء مزيج من الخجل.. والتواضع.. وأيضاً التستر حتى لا يشيع القول وتتناقله أفواه الوشاة).. هل هذا ما يعنيه شاعرنا في عنوانه لديوانه؟ من هذا الذي يحسبه هو؟
العنوان أحسبه أنا.. من ذا يكون؟.
نعم هذا ما يعنيه! الخوف من أفواه الوشاة ونظرات أصدقاء الأمس وكأنها رصاصات لا تخطئ صاحبها فهو قريب عهد بالتدين المطلق الذي يمسك لسانه عن البوح بالحب والغزل وما تختلجه النفس عن الجمال والعشق! هكذا يعتقد! ثم أنه تجرأ شيئاً فشيئاً فكانت القوة التي مزقت قناع الاستحياء بمقالات يحكي فيها قصصه وما كان وما لم يكن دون مواربة أو مداهنة! والتمزيق تعني القوة والشراسة وهو ضد الرفق واللين وكأنها أفكار ورؤى ظلت حبيسة قلب آن لها أن تخرج بقوة! ولم يقصد بالقناع النفاق الاجتماعي المتعمد لغرضِ ما! وإنما هو ما كان يستر ويحول بين قلبه وبين ما يريد إخراجه للناس والتعبير عما يجول في خاطره ويمليه عليه فؤاده وإن عارض توجهه السابق! بثقافة متنوعة جميلة متعددة أخرجها من وعاء لا يقدر أن يملؤه أكثر وقد طفح منه فقرر أن يمزق قناع العفوية والمجاملة وليته كان رقيقاً كما في ديوانه (رقصة الفستان) والذي نوّع في قصائده وطرق موضوعات شتى جاء نصيب المرأة الأوفر حظاً والغزل والتشبيب كان الغرض الأساسي للديوان فرقصت شخصيات قصائده مع الفستان جميعاً امرأة كانت أو رجل يقول في مملكة الجمال:
قد تصدّق الأحلام بعد كِذابِ
كالشمس تطلع بعد طول غيابِ
هذا هو الحظ السعيد يقودني
لبلاط مملكة، تثير.. رغابي
بالأمسِ أنظر بابها في لهفة
واليوم أبصر ما وراء الباب
عطر العذارى في المكان يحفّني
وبقيةٌ من وشوشات كعابِ
ولا ينسى حارته القديمة وجدّه فهما صنوان ثابتان في ذاكرة صلاح بن هندي دائماً فحنينه أبداً لأول منزل رأت فيه عيناه نور الحياة! وجدّه الذي يحكي له قصص حارته القديمة! فعشقه المتيّم لحارته جعله يهدي إليها وإلى جدّه باكورة كتابه الأخير (دخان الأحلام) وهو عبارة عن مجموعة قصصية قصيرة يغلب عليها طابع البساطة والفلسفة التي أكب على قراءتها وخاصة اليونانية منها وفيها وضع كل ما كان يحلم فيه سابقاً ويتصوره بصور درامية وبأسلوب قصصي مشوّق! وهذا أتى بعد تجربة غنية وقراءة مستفيضة من ثقافة متنوعة ألهمته أسلوباً ممتعاً وأفكاراً جديدة تجعل القارئ يعيش في أحلام دون دخان! وهو من منشورات النادي الأدبي بالأحساء.
ليس صلاح بن هندي أول شخص رمى عباءة التنسك وقلب ظهر المجنّ على ما بدأه أول مرة فأبدل خشونة التربية برقّة التجربة ومزّق قناع كان يرتديه خشية الملامة ولا أعتقد أنه وصل في تحوله إلى نقطة خطرة كالتي وصل إليها فهد العسكر وآخرون ! ولا شك أننا كلنا نملك أقنعة نمسك بها حين تلزم الحاجة لذلك! وبودي أن القناع لم يكن ممزقاً وتناوله برفق وألقى من خلاله بنظرات هنا وهناك وإن تفتقت زهرات موهبته من جنبات قلب كان ينبض بالحب على استحياء.
- زياد بن حمد السبيت