حين كنت طالباً في المرحلة الثانوية، كان لدينا أحد المعلمين المتشددين جداً لدرجة أنه كان ينهرني عن كتابة القصائد الغزلية الشعبية التي كنت مولعاً بها بدعوى أنها «حرام» وأنها من لغو الحديث وهي مضيعة للوقت كما كان يقول،
وكنت وقتها أتساءل لماذا يحرّمون الشيء ثم يدرسونه لنا في مادة الأدب؟ وكان يجيبني على ذلك أن هذا ليس إلا لمعرفة الشيء والإحاطة به ليس أكثر، ولم يقنعني قوله في حينها، لكن النقاش وقتها مع أحد المعلمين قد يكون سبباً كافياً لاستدعاء ولي الأمر، فقد كنت أعرف أن الشِّعر كان يُلقى حتى في وقت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى على أحد قصة قصيدة البُردة. لقد كانت حصته لا تخلو من الشطحات الفكرية، وكانت وقتها تلك الشطحات تنطلي علينا كطلاب إذ لم نكن ضليعين بالمعارف ولم نتلقى التعليم بطريقة الحوار والنقاش، بل بطريقة التلقين التي جعلتنا حين كبرنا نخشى من التفكير والاطلاع والبحث عن الحقيقة.
ومن ضمن ما ألقاه علينا ذلك المعلم - هداه الله - أن اليهودية لا ترد يد لامس، وأوهمنا أن ذلك حديثاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك في معرض ذكره لرذائل اليهود وخطاياهم، وحين كبرنا وكبر في صدورنا ذلك الموروث الشعبي الديني ونحن الذين لم نتعود على الإطلاق أن نناقش ونشك ونبحث حتى نجد الحقيقة أصبحنا نحمل ذلك الموروث ونجعله يسيرنا كيفما شاء وإلى أي اتجاه دون أن نجرأ على قول كلمة لا، أو نخالفه طالما ما أنزل الله به من سلطان، فأصبحنا نخشى العادات والتقاليد كخشيتنا من معصية الله!
لقد عرفت أن الموروث الشعبي الديني ليس إلا خلطاً بين العادات والتقاليد والتفسيرات المتشددة الخاطئة لبعض النصوص القرآنية والأحاديث ودمجها مع عدد من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات ثم تردد علينا دون ذكر المصدر والإسناد وغيره، وذلك خوفاً من مخالفة الآراء التي أتوا بها وردها عليهم، وربما لحفظ مصالحهم الشخصية ومكانتهم الاجتماعية واستمرار تقديس أقوالهم وهم في جلباب المشيخة.
حين طرأ إلى بالي ذلك القول « أن اليهودية لا ترد يد لامس « ذهبت لأبحث عنه وأقرأ عن ما جاء به ذلك المعلم - هداه الله- فوجدت أن نقله خطأ وأن صواب النقل بحد ذاته فيه شبهة، حيث جاء في سنن النسائي - أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل، قال حدثنا حماد بن سلمة قال أنبأنا هارون بن رئاب عن عبدالله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن تحتي امرأة لا ترد يد لامس، قال: طلقها. قال: إني لا أصبر عنها ! قال: فأمسكها.
قال أبوعبدالرحمن هذا خطأ والصواب مرسل، وقال الإمام أحمد ليس هذا الحديث يثبت عن النبي، ليس له إسناد جيد، قال ابن تيمية: هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره.
ففضلاً عن ضعف الحديث فقد غير صيغته، ليرسخ مفهومه وفكره في عقولنا، وبهذه الطريقة تكونت لدى أكثر الكثير من المعتقدات الخاطئة، والدين بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، فالموروث هو ذاته الذي حرم الفلسفة والقراءة والسؤال والبحث واعتبروا ذلك من الشك بالله وعدم الاقتناع بدينه الإسلامي.
إن الموروث حين حل بنا لم تقع وطأته على عامة الناس فقط، بل أنه أصاب المفكرين أيضاً، وهم يعتبرون من نخبة القوم، والذين يفترض بهم أن تكون أفكارهم خارج إطار الحدود التي حددها لهم المجتمع، إذ أنهم لا يفكرون بشكل تقليدي كما بقية الناس، كما أنهم دائماً تواقون للمعرفة والتحرر من القيود الفكرية التي تقيد حرية إبداعاتهم ولا يريد الناس الخلاص منها بسبب تقديسهم لها، فيقول مانهايم عن المفكرين من حيث التحرر الفكري أنهم صنفين رئيسيين:
فالصنف الأول هو المقيّد اجتماعياً، وينتمي إلى هذا الصنف عامة الناس، إذ هم لا يخرجون في تفكيرهم عن الإطار الذي قيدهم المجتمع به.
أما الصنف الثاني فهو المتحرر اجتماعياً وينتمي إليه أولئك الذين استطاعوا أن يجوبوا الآفاق ويطلعوا على مختلف أوجه النظر، فتحررت أذهانهم من جراء ذلك.
وقد أخذ الناس على مانهايم من هذه الناحية إذ أنه ليس بالإمكان لأحد مهما كان أن يتحرر من قيوده الفكرية تحرراً تاماً لا شوب فيه، ورد عليهم علي الوردي قائلاً: بأن هذا صحيح، ولكن الإنسان قادر أن يتحرر بفكره تحرراً نسبياً، والمفكرون المتحررون يتفاوتون في الدرجة التي يستطيعون بها التخلص من تقاليد بيئتهم، وكلما أمعنوا في هذا التخلص ازدادوا إبداعاً وتمهد لديهم طريق البحث السليم.
يقول علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري: « يمكن تشبيه الحقيقة بالهرم ذي الأوجه المتعددة، فالمفكر المقيد اجتماعياً يركز نظره عادة في وجه واحد من الحقيقة ويهمل الأوجه الأخرى، إنه مربوط في مكانه بسلاسل قوية من التقاليد والمفاهيم المألوفة، وهو لذلك لا يستطيع التحرك يميناً أو يساراً إلا ضمن حد محدود.
أما المتحرر فهو قادر على الحركة قليلاً أو كثيراً، ويزداد اقترابه من الحقيقة الوسطى كلما أمعن في حركاته ذات اليمين وذات الشمال.
كان القدماء يعتقدون أن الحقيقة واحدة وهي معلقة في الفراغ. ومعنى ذلك أنها ذات وجه واحد، فمن رأى ذلك الوجه أدرك كُنه الحقيقة كلها، من غير لف أو دوران.
ولهذا كانوا إذا رأوا فريقين يتنازعون على شيء جزموا حالاً بأن أحدهما يجب أن يكون مُحقاً والآخر مُبطلاً، فلابد أن يكون الحق كله في جانب واحد، أما الفريق الآخر فنصيبه الباطل حتماً على زعمهم».
وهذا ما انتقل لنا من الموروث الشعبي الديني إن جاز لي تسمية ما نقل إلينا بهذا المصطلح، فقد كان من الصعب تفكيك ذلك الخطاب وتياره الجارف والبحث فيما وراءه من حقائق جميلة مختبئة، كما أنه لا يجوز حتى التفكير خارج الإطار المألوف، وبهذا ظل لسنوات طويلة تفكيرنا مقيد لا ينظر إلى الأمور بحرية تامة، ولا يجول في الأفق كيفما شاء، فجعلنا نتلقى مزيداً من جرعات الموروث الشعبي الذي ظهرت نتائجه اليوم بوجه مسخ لا يمثل الإسلام الحقيقي الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
لقد شكل بعض المنتفعين من الدين حول أنفسهم هالة من القدسية جعلتهم يتخذون الوسائل المتاحة كمبررات لنشر فكرهم والذي لا ينتهي في النهاية إلى شيء عدا مزيد من تقديسهم ورفعهم على أكتاف البشر كزعماء ثوريون، فقد حددوا الإطار الفكري الذي تنفذ من المعلومات في أدمغة البشر وانطلقوا يبثون سموم الفكر المتشدد، ونقلاً عن علي الوردي فقد اكتشف العلم الحديث أن العقل البشري مغلف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة والبراهين إلا من خلال نطاق محدودٍ جداً وهذا النطاق الذي تنفذ من خلاله الأدلة العقلية مؤلف من تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الإنسان في الغالب.
لذلك ضمن أولئك المتشددون أنهم بعد أن حقنوا الناس بذلك الكم الهائل من الموروث الشعبي الديني، لن تتزعزع مكانتهم لأن أولئك البسطاء من الناس لن يجرأ أحد منهم على التفكير والبحث وراء ما قاله الشيخ فلان، أو الشيخ علان، لأنهم جعلوا الناس يتبعون الأشخاص ولا يتبعون الحق، بينما المعادلة أن تتبع الحق وليس الأشخاص.
وإن ارتأيت أن تأتي بالأدلة القاطعة والحجج الساطعة لأحد هؤلاء الناس لكي تدحض بها شبهاتهم والأحاديث الضعيفة والإسرائيليات التي قدموها على أنها من ما جاء به الدين الإسلامي لوى عنك عنقه وأعرض عن سبيلك ! ومن يدري، ربما كفّرك!!
ولعلك أخي القارئ حين تبحر في ما لديك من موروث وتقارنه بما جاء في القرآن وصحيح الأحاديث ستجد أنك كنت تبالغ في كثير من الأمور حد الغلو، بل أنك تفعل ما لم ينزل الله به من سلطان. وأن الدين الإسلامي بريء من كثير من المعتقدات الشعبية التي لا حصر لها.
إنك تعرف من الموروث أنه موروث بطريقة سهلة جداً، فسوف تجده مليئاً بالنقائض الواضحة، بل أنه لا يدخل العقل حتى إن ولج الجمل من سم الخياط، إنه يشبه خرافات الأقدمين و(سباحين) الأولين!
قال أحد المعلمين لأحد طلابه الأشقياء: «أنه ورد عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قوله: من علمني حرفاً، صرت له عبداً» وظل الطلاب من بعده يرددون هذا القول بين أنفسهم وبعضهم أصبح معلماً بعد عدة سنوات وردد ذلك القول على مسامع طلابه، دون أن يكلف نفسه عناء التأكد من كون ذلك من أقوال النبي الكريم أم قول ملفق على لسانه عليه الصلاة والسلام! وهو بطبيعة الحال ليس من أقواله..!!
- عادل الدوسري
تويتر: @AaaAm26
بريد إلكتروني: aaa-am26@hotmail.com