بقلم: أ.د.سليمان بن عبدالله أباالخيل ">
إنَّ الحديث عن المنجزات الكبرى التي تقدمها المملكة العربية السعودية في منطقة الحرمين الشريفين والمشاعر حديث عن أهم مقومات العز والتمكين, والريادة العالمية, لبلد أخذ على عاتقه منذ تأسيسه على يد الموحد الباني المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن - رحمه الله، وجعل الجنة مأواه-, وحتى هذا العهد الميمون المبارك, والعصر المبارك عصر سلمان الحزم والعزم، سلمان الوفاء والمكرمات، رجل التأريخ وقائد التحولات الكبرى التي جنب الله بها وطننا العزيز من فتن عظيمة، فكانت قيادته وفترة حكمه الممتدة - بإذن الله - امتداداً لجهود وأعمال هذه الأسرة الماجدة، وتحقيقاً لطموحات المؤسس - رحمه الله، فهي أعمال ومنجزات تنطلق من إخلاصه لدينه ولوطنه ولشعبه، يؤازره ويعاضده ويشد من أزره ويقويه سمو ولي العهد الأمين, والعضد المكين, صاحب السمو الملكي الأمير/ محمد بن نايف بن عبدالعزيز, وسمو ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان - حفظهم الله - فهم من حمل هذه الأمانة والمسؤولية عن هذه الدولة المباركة ومواطنيها, وعن المسلمين في كل أنحاء العالم, وعن مقدسات المسلمين في هذا الوطن الغالي خصوصًا. ولذا، فالحديث عن منجزاتهم عمومًا, وفي مكة والمدينة والمشاعر خصوصًا حديث له مذاقه الخاص, ورونقه الذي يحمل السعادة على قائله وقارئه, لأنه حديث عن خصائص ومميزات بارك الله بها مسيرتنا، وحمى الله بها وطننا، وهيّأ ووفق لها قادتنا، وجعل قدرهم وشأنهم ورسالتهم أن تحمى هذه المقدسات، وأن يتوافروا عليها خدمة وإعمارا وتطويرًا ودعمًا بكل الإمكانات والوسائل والتقنيات التي تجعل من هذه البقاع المباركة أجمل وأبهى وأفضل مناطق العالم، ثم هو حديث عن ثوابت المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بهويتها ورسالتها تجاه الأمة الإسلامية في كل مكان، ذلك أنَّ هذه البلاد المباركة والوطن الآمن بلد السلم والسلام، والخير والإنسانية، ومهوى الأفئدة ومهبط الوحي، وموئل المسلمين في كل مكان، هي قلب العالم الإسلامي النابض، وروحه الفاعلة، ومحركه الفعال ومحط أنظار أبنائه، ومهوى أفئدتهم، ومتجه قبلتهم، ونصير -بعد الله- لمظلومهم ومضطهدهم، ومعين لمشردهم وضعيفهم ومنكوبهم، وداعم أساسي لجميع قضاياهم على تنوع أجناسهم وألوانهم وتباين وتباعد بلادهم وديارهم. اختار الله لها أن تكون حامية وخادمة لأشرف وأطهر البقاع، ومنحها من الفضائل والنعم ما يمكنها من أداء وجبها تجاه هذا الشرف الكبير الذي اختصها الله به، ولذا فهي تعطي ولا تبخل، وتؤيد ولا تتنازل، تبني ولا تهدم، تسهم وتشارك، تعطي وتبذل دون منة أو أذى، أو انتظار لمدح وثناء، في ثبات على المواقف والمبادئ نابع من رسوخ وأصالة في القواعد والأسس، منتج للقوة في الحق، وفق نظرات صائبة وسياسة حكيمة، وأحكام سليمة تنطلق من رسالتها السامية وغاياتها النبيلة، وأهدافها العالية المستمدة من مبادئ الإسلام «عقيدة وشريعة وأخلاقًا»، والتي قاعدتها الأصلية، ومنبعها الصافي، ومعينها الذي لا ينضب كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة، تنطلق مما تميزت به الشريعة من الأصالة، والكمال والتمام والشمولية، والصلاحية لكل زمان ومكان وأمة قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمام مُبِينٍ}، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي»
فالحمد لله على توفيقه وتسديده لهم.
وتكتمل مسيرة العطاء لملك الحزم والإباء في شهر البر والصفاء وموسم الخير والزلفى إلى رب الأرض والسماء ليبهج قلوب المؤمنين، ويتحف الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في عشر مباركة، وليال ترجى فيها ليلة القدر بالبشرى بتدشين وافتتاح مشروعات عظيمة، في التوسعة الكبرى التي بدأها سلفه المبارك - رحمه الله وغفر له -، هذا المشروع العملاق، والمنجز الجبار الذي يتحدث عن نفسه، ولا يمكن وصفه مهما أوتي المتحدث من بلاغة، وليس راء كمن سمع، وما افتتح منه هو فأل لبقيته ليتجسد بعد ذلك معلماً من معالم الحضارة الإسلامية ورائعة من أهم روائعها، وليكون هذا المنجز عملاً توالى عليه حكامنا الأوفياء وقادتنا من عهد الملك المؤسس وإلى زمننا هذا وشهرنا الذي تدشن فيه أكبر توسعة للمسجد الحرام، بدأت بأمر من جلالة الملك المؤسس الباني العظيم -طيب الله ثراه، ورحمه وغفرله- وأتمها جلالة الملك سعود وفيصل - رحمهما الله - ثم توسعة الساحات الشرقية التي تمت في عهد الملك خالد - رحمه الله - - ثم توسعة المسجد من الجانب الغربي التي تمت في عهد الملك فهد - رحمه الله - ثم توسعة المسعى التي تمت في عهد الملك عبدالله - رحمه الله - ثم هذه التوسعة الكبرى التي أمر بها الملك عبدالله، وتستكمل في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله وحفظه وأعزه.
ومن يرصد هذه الجهود منذ عهد الملك المؤسس الباني، الملك/ عبدالعزيز - رحمه الله - وإلى هذا العهد الميمون يجد أن لغة الأرقام ترصد إنفاقًا كبيرًا، وجهوداً واسعة ليس في هذه التوسعات فحسب، بل في رعاية وعناية فائقة وأعمال جليلة، إذ لا يمر وقت إلا وتشهد المدينتان المقدستان (مكة المكرمة، والمدينة المنورة) خدمات وجهودًا تتواكب مع ازدياد أعداد المسلمين القادمين إلى هذه الأماكن المقدسة من شتى أنحاء العالم، وما أن تنشأ مشكلة إلا وترصد الميزانيات لدراستها ووضع الحلول المناسبة لها، وهذا كله لا يخفى على متأمل وراصد.
ويأتي واسطة العقد، وتمام العناية والرعاية، ومنتهى الروعة والإبداع، والخدمات النوعية ما وفق الله إليه خادم الحرمين الشريفين الملك/ سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- حينما اختار هذا الشهر الكريم وفي العشر الأخيرة منه ليقدم للمسلمين أعظم منجز تاريخي نوعي في هذه البقعة المقدسة، ويبهج الملايين بافتتاحها بعد أن شهد هذا الشهر الكريم قبل ثلاث سنوات انطلاق هذا العمل الإسلامي الكبير في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - رحمه الله - في أعظم عمل توسعي شهده التاريخ، وسارت بأخباره الركبان على مر العصور، ليكتمل عقد هذه التوسعات العظيمة لهذه البقعة المقدسة من حكام المسلمين عمومًا، وعبر أدوار هذه الدولة المباركة، وإن لهذا الافتتاح المبارك دلالات مهمة، فهو تأكيد على تتابع ولاة أمرنا على هذه الأعمال واعتبارها أولوية قصوى لا يمكن التنازل عنها، ولا تقف دونها العقبات، ولا تحدها الميزانيات. وما من شك أن ذلك سبب رئيس لحفظ الله لهذه البلاد وما تعيشه من نعم متوالية، جعلها مضرب المثل ومحط النظر للجميع، كما أن هذا الافتتاح يؤكد مكانة المملكة وقوتها ودورها في العالم الإسلامي والعربي بل وفي المنظومة الدولية، لأن مثل هذا التطور الكبير المنظور يشهد بقوة الأسس، ومتانة الاقتصاد، وحكمة القيادة، ووعي المواطن، وسلامة التخطيط، ومن دلالاته المهمة سلامة الرؤية، وبعد النظر، واستدعاء الماضي والحاضر والمستقبل لأن المرحلة الحالية من التوسعات التي كمل بها واسطة العقد لم تكن استجابة للوضع الآني, والاحتياج الفعلي, بل هي استشراف لمستقبل واعد, يوازي تزايد أعداد المسلمين, وما يحملونه من هوى لهذه البقاع المقدسة، جعله الله ميزة لهذه البقاع الطاهرة, ثم هذه العمارة العظيمة هي تطبيق لمنهج الإسلام في حثّه على بناء المساجد وتشييدها، وتعظيم شأن من يقوم بهذه الأعمال الجليلة, فقد أثنى الله على من يعمر بيوته حسًا ومعنى, فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ أمن بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، فهذه شهادة من الله بأن من يقوم بهذه الأعمال فهو مؤمن، وباعثه على هذا العمل هو إيمانه بالله، وهو دليل هداية، قال ابن كثير - رحمه الله - على هذه الآية: «شهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد»، وقال القرطبي - رحه الله - على هذه الآية: «دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان صحيحة؛ لأن الله سبحانه ربطه بها»، وإن من عمارة المساجد إقامتها، وترميمها وتعاهدها وصيانتها, لاسيما إن كانت أعظم المساجد وأقدس البقاع، كما أن هذا الافتتاح يشهد بما عهد عن ولاة أمرنا -أيدهم الله -من التلاحم والوفاء والتكاتف والتعاضد فيما بينهم كأسرة مباركة وفيما بينهم وبين شعبهم الذي يبادلهم كل ما يقدمونه حباً وولاء وتقديراً يقل نظيره، ولله الحمد.
والمتابع والمطلع على أحوال الحرمين الشريفين، وما تحقق فيها من منجزات، سواء في البنى التحتية والتجهيزات الأساسية، أو في الخدمات والتسهيلات، أو في المواصلات والتقنيات، أو في توفير كل ما يحقق الروحانية والاطمئنان من الأمن والأمان، والتوجيه والإرشاد، وتجنيد كافة المقدرات والطاقات المادية والبشرية في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة يدرك بأن حجاج بيت الله الحرام لم يتمتعوا في عصر من العصور بعد القرون الأولى بنعمة الأمن والأمان والسلام في بلاد الحرمين الشريفين مثل ما تمتعوا بهما منذ زمن الملك المؤسس الصالح عبدالعزيز بن عبدالرحمن - رحمه الله - وإلى الآن. وتعد هذه الجهود أعظم منجز لهذه الدولة الإسلامية، وهذا من توفيق الله لهم.
ومن يرصد هذه الأعمال والجهود التي تصب في هدف التوسعة الكبرى يجد أنها على ضخامتها وتنوعها ودقتها وحساسيتها لارتباطها بما هو مقصد المسلمين من المجيء إلى هذه البلاد، إلا أن الأعمال تسير وتنجز وفق خطط مرسومة تحقق الإنجاز والنوعية، مع توفير حق المسلمين في الوصول إلى الكعبة والمسجد الحرام، وقضاء الوطر منهما، وأداء عباداتهم بيسر وسهولة دون أن يؤثر سير الأعمال على ما قصدوا البيت من أجله. وهذا كله لم يحصل إلا بتوفيق الله، ثم الجهود المبذولة والتوجيهات السديدة، والرؤى الرشيدة التي تجعل من تأمين الوصول إلى المسجد الحرام أولوية لا تتعارض البتة مع ما يكمل من عمل. وطبعي أن ذلك يستلزم تجنيد الطاقات البشرية، والمقدرات العظيمة في توفير البدائل المؤقتة، بل وتوظيف التقنية فيها، وهذا ما يلمسه كل من شرف بزيارة المسجد الحرام، وأدى مناسك العمرة، حيث يقف على جهود متواصلة، وخدمات جليلة، وتسهيلات وإمكانات لا يشعر معها أن عملاً يتم، وهي شواهد لما نحن بصدده من توفيق الله لهذه القيادة الراشدة التي لا يحصر عطاؤها في كل شأن وفي مجال خدمة الحرمين خصوصًا، ينفذ إرادتها ويحقق طموحاتها ويجعل توجيهاتها واقعًا حيًّا، رجال مخلصون، ومواطنون مجتهدون، في الجهات المعنية المباشرة لهذه الخدمات، وعلى رأس تلك الجهات الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، بقيادة رجل وفي، وعالم عامل، وقيادي موفق مسدد، يرى أن هذه المهام والمسؤوليات شرف لا يدانيه شرف، وخدمة للإسلام والمسلمين لا تقارن بغيرها، ولهذا انبرى مع زملائه وإخوانه يتفانون ويضحون بأوقاتهم لتقديم الصورة المثلى عن عناية بلد الحرمين بهذه البقاع الطاهرة، إنه معالي الأخ الأستاذ الدكتور/ عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس، يعاونه في شأن المسجد الحرام معالي نائبه الشيخ/ محمد بن صالح الخزيّم، وفي شؤون المسجد النبوي معالي الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله الفالح -وفقهم الله، فالرئاسة بقيادتهم تقدم جهودًا عظيمة، ويلمس الجميع أثر تلك الجهود، ويعيشونها واقعًا حيًّا في خدمات متوالية، وتسهيلات عظيمة، ومهام متنوعة متعددة، يختارون لها الأكفاء الذين يجعلون شعارهم خدمة الحاج والمعتمر والزائر شرف، ويتلمسون أفضل المؤسسات التي تقدم أميز خدمة، سواء في وقت الانشغال بالأعمال أو في عموم الأوقات، ولاسيما فيما يشهده المسجد الحرام من توسعة حالية، يجد المرء أن ما يبذل في هذا الإطار يتضاف ويتكامل لتحقيق المواءمة بين خدمة قاصدي المسجد الحرام، وإباحة الوقت الكافي لاستكمال ما خطط له في أسرع وقت، وإننا لنحتسب على الله أن يوفق إمامنا بتوفيقه، وأن يسدده بتسديده، ويعظم له الأجر لقاء ما قدمه للإسلام والمسلمين، ولهذه الأماكن المقدسة، ونستشرف هذه الأجور العظيمة على ضوء مقاصد الشريعة الكبرى، ونصوصها الجزئية التي رتبت فضلاً كبيرًا على عمارة المساجد، فكيف بأعظم المساجد وأقدسها وأجلها؛ لأن توسعة بقعة هي مهوى الأفئدة، ومتطلع المسلمين، وعرصات مناسكهم، وقبلة عباداتهم، ومكان توحدهم واجتماعهم العظيم لا ينحصر نفعه في مجرد الصلاة، أو في شأن معين، بل يعم كل أنواع العبادات المرتبطة بالمكان، ويكون في هذا العمل الجليل حماية العقيدة، وتحقيق توحيد الله، وإخلاص العمل له.
وبعد: فإن هذه الجهود المباركة لا يشك منصف عاقل أنها من أسرار التمكين والعز والتأييد، وأن هذه الجوانب المضيئة جزء من الثوابت، وهذه الجهود ستزداد مضاءً وثباتًا وقوةً وفق رؤى واضحة وأهداف بينة، وعمل دؤوب، تحقق به المملكة العربية السعودية رضا الله عز وجل، وذلك لأنها تعمل لوجه الله لا تريد جزاءً ولا شكورًا سوى مرضاة الله وخدمة المسلمين.
وإن حقًا على كل مسلم وكل مواطن شهد هذا الحدث التاريخي، والعمل الإسلامي العظيم أن يحمد الله على أن هيّأ ولاة أمر هذه البلاد ووفقهم لمثل هذا العمل الجليل، وأن يدرك أن هذا سر من أسرار التمكين والأمن والأمان والوحدة والاجتماع، وأن يلهج بالثناء على الله والدعاء بأن يحفظ الله هذه البلاد آمنة مطمئنة، وأن يجزل الأجر والمثوبة، ومضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده وولي ولي عهده الذين رعوا ودعموا وباركوا هذه التوسعة, ونسأل الله أن يجعلها زادهم إلى رضوان الله وجنته، ومغفرته ورحمته، وأن يرد بهذه الأعمال الجليلة عن هذه البلاد الشرور والفتن، والبلايا والمحن، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.