إن من أكثر ما يجري على أفواه العامة ويتكلم به الوعاظ هو بر الوالدين، ودائماً ما يستدل بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}، فإذا تدبرنا في الوصايا التي جاءت في كتاب الله الخاصة بعلاقة الإنسان بوالديه، وحصرنا هذه الوصية لوجدناها ذكرت في ثلاثة مواضع بصيغة {وَوَصَّيْنَا}. الأولى في سورة العنكبوت، والثانية في سورة لقمان، والثالثة في سورة الأحقاف. ففي الوصية الأولى والثالثة كانت الوصية متبوعة بمقتضاها في صيغتين من اشتقاق واحد وهما (حُسْنًا) و(إِحْسَانًا).
وإذا نظرنا إلى وسط الوردة وهي موضع سورة لقمان تجلت فيها روح هذه السورة، وهي قصة لقمان الحكيم ووصاياه. وفاح من وردتها أريجاً عاطراً من معاني الحكمة. وقد وجدنا الوصية غير متبوعة بمقتضاها كأختيها في العنكبوت وفي الأحقاف. وكان هناك فاصل طويل بين الوصية وبين الأمر بالشكر لله ثم للوالدين. والحُسن والحَسن والإحسان قد يكون عملاً وقد يكون قولاً، أما الشكر فلا يكون إلا عملاً.
ولما كانت هذه السورة تتحدث عن التربية وشمسها التي أشرقت من غلس وظلمة الجاهلية إلى نور الهدى والهدي الرباني، جاءت الوصية مناسبة لنسق هذه السورة. فهي قواعد للتربية وأسس المنهج الرابط الجميل بين جيلين. جيل أحسن وأتقن التربية وأعطى ما لديه من الحنان، وحرم نفسه من ملذات كثيرة ليستمتع بها الوليد الصغير الذي مر بفترات داخل الرحم والبطن والظلمات الثلاث. وخرج إلى الدنيا ضعيفاً بطعامه وشرابه مع الحنو والأهازيج التي أسعدت سمعه وسكنت قلبه، ولبيت جميع طلباته، وأحضرت رغباته بدون تقصير.
فمن عصب الأم نمت أعصابه، ومن نظرها أضاء النور في ناظريه، ومن سمعها تغذت أذنيه، ومن عظامها ودمها وقلبها. فكل آلة فيه كانت تستمد خلاياها من آلة الأم حتى أصبح له استقلاليته. واعتمد على نفسه شيئاً فشيئا، بتدريب طويل وكان لا بد لمن قدَّم كل هذه الأطايب أن ينال منه الجهد والتعب، وتبدو سطور الضعف واضحة في وجهه وجميع قواه. فكانت الآية في سورة لقمان تصور هذه المسافة التي قطعها الإنسان. وهي كافية في إيقاظه من سبات غفلة الحياة على الواجب المفروض أن يكون منه بعد أن ذكرته الآية بأعظم صور المبار الإنسانية التي قدمتها الوالدة والوالد.
وهنا كان مقتضى الوصية وهو الشكر. فإن هذا الإنسان الذي أصابه ما أصابه من مكابدة لمصلحة هذا المخلوق الصغير الذي كبر وكبرت معه الآمال في أن يكون إنساناً تنبت في خطاه أزهار الخير كما ينبت الماء البقل. فكان لا بد أن يقدم عملاً وصف بأنه شكر، ولأهميته كان مقروناً بشكر الله تبارك وتعالى. وشكر الله يتمثّل بالقيام بما فرضه الله على خلقه من العبادات التي تجعل حياته في نعيم دائم، وسعادة كأنها احتفال دائم بالفضيلة الممزوجة بالإنسانية في أبهى صورها وغاية كمالها.
ولما كان الشكر لا يكون إلا بالعمل وجبت مراجعته ومراقبته كي يكون منافساً للكمال كالبدر ليلة تمامه، لا يرضى صاحبه بالعور ولا بالحور. ولأن العمل المرفوع إلى مقام الربوبية العلي يحتاج إلى نظر دائم في بلوغ المقصود، وتحقق من الوصول إلى مراد الله مستمر. تأتي الحكمة الربانية التي تجدها في الكتاب العزيز دائماً ما تقرن بين توحيد الله وإفراده بالعبادة والإحسان إلى الوالدين. والإحسان هو أن تعبد الله وهو ماثل نصب عينيك ترجو رحمته وتخشى عقابه، وأن تشكر إلى والديك راغباً من ذلك رضاهما لأن الجنة تحت أقدامهما.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي