سامي البطاطي ">
كلما وجدت نفسي عاجزاً عن الكتابة توجهت لمائدة الكتب؛ لأتناول منها ما يستحث الأفكار في نفسي لتخرج.
تشبه هذه العلاقة إلى حد كبير العلاقة الهندسية التي يقوم عليها المولد الكهربائي!
وذلك أن المولد الكهربائي يقوم على وجود Flux (تدفق كهربائي) وحركة؛ لتتولد بعدها الشحنات الكهربائية.
وهي بالضبط طريقة عمل المولد الفكري!
فالفلكس هنا هو القدرة على الكتابة، والحركة هي حركة العقل بالقراءة أو التجربة، ومن هذين تتولد الأفكار.
حينما كنت أنظر للأفكار بتلك العلاقة الهندسية التي أدرسها في الجامعة مع المولدات الكهربائية بتّ أتساءل: هل يمكن أن يكون لدراستي أثر في تفكيري؟ هل ستكون الهندسة هي النظارة التي أنظر بها للعالم؟
فيثاغورس عالم الرياضيات الشهير كان يعتقد أن الأعداد هي أساس كل شيء، وأن الأشياء كلها يمكن التعبير عنها بالأرقام، وكان له ولأتباعه اعتقادات دينية في الأعداد كقداسة الأعداد الفردية، وله فلسفة دينية في الأعداد غير الفلسفة الرياضية التي ندرسها.
وإذا كان فيثاغورس ينظر إلى العالم وإلى كل شيء نظرة رياضية أو عددية، فإن الفيزيائي ينظر إلى العالم بقوانين نيوتن وآينشتاين، والكيميائي ينظر إلى العالم بمركّباته وذراته.. وهذه النظارة لا تقتصر على رؤية علمه المادي فحسب بل هي تنظر إلى كل شيء بما فيها الدين بهذه النظرة.
هذه الحقيقة عند التأمل بها هي أمر بدهي؛ وذلك أن عقل الإنسان إنما يقرأ الأشياء حسب ما تشكلت صورتها في عقله.
فحينما تنظر عينك إلى كلمة (كتاب) فإن عقلك يقرؤها في صورة الكتاب، بأوراقه وغلافه وشكله المرسوم في ذهنك، ولو أنه تشكل في صورة شيء آخر لكان هو ما قرأه عقلك عند النظر إلى تلك الكلمة.
وهذه الحقيقة وإن كانت بديهية فهي في الوقت نفسه خطيرة؛ وذلك أن العقل متى ما تشكل على قواعد خاطئة فإنه سيقرأ الأشياء من حوله قراءة خاطئة.
والأمر الآخر أنه لا يمكن أن تفسر جميع الأشياء من الزاوية ذاتها، ومن نظارة واحدة، بل قد نحتاج إلى أن ننتقل إلى زاوية أخرى؛ لنتمكن من رؤيتها؛ فكما أن لغات الناس تختلف فلغات الأشياء من حولنا تختلف.
ولأجل هذا الاختلاف لم يجعل الله دليل وجوده في لغة واحدة، بل جعلها في كل شيء، وعلى كل لغة؛ فالفيزيائي يعرف ربه من قوانين الطبيعة وهندستها، وعالم الأحياء يرى الله في مخلوقاته الحية وتركيبها، والكيميائي يرى الله في ذرات خلقه ونواتها، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد!
فإذا وصل إلى الله وعرفه فليفهم مراده وكلامه كما أراد الله لا كما أراد هو، ولينتقل من لغته الخاصة التي أوصلته إلى الله إلى ملكوت الله ووحيه؛ فهو عالم لا يمكن أن يراه بنظارته وحدها، ولا أن يقرأه بلغته، وليس كل شيء حينها يمكن أن يفسرها علمه.. فحسبك من علمك أن أوصلك إلى الوحي؛ لتفهم ما أراد الله.