عبدالعزيز السليم ">
الدهشة التي يثيرها مجتمع جديد علينا لا تظهر من اختلافنا في أي جانب فحسب، إن في التقاليد أو نمط التفكير أو الشكل أو الزي أو الممارسات الحياتية المعتادة، بل إن الصينيين بالمقابل تثار دهشتهم أول وهلة من الشكل والسحنة. وعلى اختلاف طبقاتهم ومرجعياتهم العقدية والقبلية يتعدد تعجبهم من تفاصيل كل ما تقع عليه عيونهم نتيجة أسوار الثقافة القومية المحيطة بهم وانحسار التعددية في البعد الواحد في النظام الحزبي. ومع أن العالم يطلق عليهم (بلد العجائب) فإننا بالنسبة لهم شعوب عجيبة ومصدر للفرجة والتفكير..
لكن تقاليدهم -الظاهرة على الأقل- ليست قشورية كغيرهم من المجتمعات، وإنما متغلغلة في كافة جوانب ممارساتهم الاجتماعية والصحية، غير أن ما يجمعنا بهم وييسر سبل التعايش المشتركات الحضارية التي جمعتهم -مضطرين- بفعل التقارب التقني والإعلامي مع الغرب كوسائل النقل والوجبات السريعة وأنظمة التواصل واستعمال الآلات الحديثة. ولذلك فإن أي وافد ذي خصوصية كالفرد المسلم العربي يعاني ندرة في حاجياته التي قد يعدها ضرورية واعتادها في بلده وصارت روتينا لا يستغني عنه، حتى نضطر إلى شحن حاجياتنا بأوزان مهولة قد تصل إلى 500 كيلوجرام. فمثلا لا يمكن أن تحصل على عناصر القهوة العربية أو الشاي الأسود المعتاد ولا التمر أو ما اعتدنا عليه من ضرورات بعض الأطعمة، إلا أننا لاحظنا استيراد أخيراً الأجبان ومشتقاتها في محال البضائع المستوردة وبأثمان باهظة.. إضافة إلى ما يتعلق باللحوم الحلال والحصول عليها بشيء من المعاناة.
في هذا الواقع قد يستغني الإنسان عما اعتاد عليه، وقد يوطن نفسه على ركوب موجة حياة جديدة كتجربة ثرية وكمصدر لفهم أكثر للبيئة مع قلة حيلة تجعله يتجاوز رغباته، ويسلك طرقا أخرى بديلة في بلد تعقيداته مركبة فضلا عن اللغة الصينية العصية على التعلم السريع كغيرها من اللغات. ومن هنا يضاف عبء واقع اجتماعي يحاول فرض -بحسن نية- تقاليد بلده وخاصة فيما يتعلق ببروتوكول الجماعة والاجتماعات! ومع وجود بدائل إلا أن بعضا منهم مازال مقتنعا بضرورة الولائم الباذخة وتقديم التهيئات قبلها وبعدها وبشكل متواصل ومستمر يوقع من لا يستطيع في حرج بالغ. ولا يتوقف الوضع عند واجب وليمة في استقبال أو توديع، وإنما بشكل دوري واجتماع محدد وفي بيت معد خصص لهذه (الدورية). ومع إيجابية ذلك في التقارب وشد الأزر وإزالة وحشة الغربة إلا أن آخرين يرون الاكتفاء بالجلسات البسيطة الخالية من تعقيد الطبخ والنفخ فالهدف جلسة حميمية لا عمل مرهق في إعداد وليمة من الساعة السادسة مساء إلى الثانية عشرة تنتفي فيه غاية اللقاء والاجتماع.
وضع اجتماعي -في كثير من بلاد الغربة- يشكل عبئا مع أعباء تضاف إلى مراجعة العيادات والوظيفة وهموم التواصل مع الأهل والعائلة ومحاولات وحيل لقضاء حاجات المنزل أو إصلاح عطل يتطلب تواصل مع مؤسسة أو.. أو..، كل هذا كاف لتراكم الهموم، وجعل الإنسان ينقلب حاله إلى تعاسة يشعر بأنها فرضت عليه وفي استطاعته الإلقاء بها وراء ظهره باتخاذ قرار وعدم مجاملة على حساب عقله ونفسه.
هي نفسها العادات والتقاليد نجترها اجتراراً في كل تفاصيل حياتنا حتى في بلد لا يشجع على التقيد بها تماما ودائما ما أتساءل.. كيف يستطيع الآخرون التردد على الأسواق والمولات بهذا الجلد المتواصل، وكيف تواتيهم الرغبة الملحة في كثرة التردد على المطاعم والسهر كل ليلة في مكان ما، وكيف غدت السعادة لا طعم لها ولا نكهة إلا باستحضار مفهوم الغربة في النفس بينما هو في أعماقها. وهؤلاء الذين يضيعون أوقاتهم في التسوق والتريض قد يقصرون في ضرورات تهم صحتهم كالرياضة أو واجبهم نحو أبنائهم ومتابعة شؤونهم الدراسية أو اتخاذ هواية أو دورة ما لتعلم لغة أو فن الفنون لملء فراغ ممتد يحسده عليه الكثير.
وقد يلتزم الموظف بالارتباط ببروتوكول السفارة الرسمي وحضور المناسبات لكونها واجباً وطنيا إلا أن هناك طقوساً اجتماعية قد تكون أشد وقعا من المراسيم الوظيفية بربط الوظيفة بالجماعة! ومن يصنف الإنسان حيث يكون ولاؤه لزملائه وأصدقائه ومدى ارتباطه بهم واستجابته لدعواتهم المتكررة لحضور مناسبة تطرأ أمزجة الشباب، وكأن انعزال الفرد -نوعا ما- يوحي من قبلهم إلى «موقف» اتخذ سلفاً -هذا الموقف يعطي انطباعا بأن «فلان» رغب في ذلك لأسباب تفتح شتى الظنون والآراء، وتحوم حول فلان الشبه والاتهامات، وتصبغ شخصيته بألوان من الهواجس النفسية والعقلية.. وقد يظل هذا الرجل محتميا بصمته، غير أن لا تفسير لموقفه غير طبعه الانعزالي الذي قد تقتضيه طبيعة شخصية، أو انتهاز الوقت بما يفيد، أو وجهة نظر ترى الاقتصار على تقليل الخلطة حفظا لكرامة النفس من مصدر لقلق من شبكات من الثرثرات التي يساء فهمها في مجتمع تتعدد مناطقيته ثم التعدد في تأويل بعض العبارات.. وهكذا.. في كل حال إنسان ينقطع لأي سبب يخصه.. طالب أو معلم في مدرسة أو موظف في وظيفته أو جار في حارة أو صديق ينتمي لمجموعة. جربتها في تلك الدوائر! لا يمكن أن يدعك الناس في شأنك مع أن هذا التحاشي يعد في عرف المجتمعات الأخرى أمرا عاديا. والمخيف أنك إذا كنت ذا طبيعة انعزالية -في رأيهم- ستوصم بكل ما يؤذيك من الأسئلة الخجولة أو الوقحة أو حتى النظرات المستريبة. وأشد ما يكون عندما تظهر شخصيتك بنفس مستقرة وتعاط مريح مقبول ومحبوب، فتتأجج نار الهواجس وتتكاثر فروع التعجب والشك عن إنسان لا يظهر ولا يبدو منه غير الخير والرزانة والانضباط في العمل.. ولهذا -في رأيهم- «نحن أولى بك» و»العود أحمد» وإلا فإن العزوف عن الجماعة لـ»سبب محدد». وتبدأ الاجتهادات وتعقد الاجتماعات التي لا تزيد الرأي إلا إلى رأيين أو ثلاثة أو أكثر. والمدهش -من خلال هذه التجارب- أن هذه الأحوال تصبح فاكهة للمجالس، أو مصدرا للتندر وإطلاق قنوات التفسير والتفكير، وربما خطوات عملية لوضع «إنساني يثير الشفقة» وقع في احتمال «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».
وهذه الحال من أحوالنا الاجتماعية التي تنشأ من وهم أننا جماعة واحدة، ونتغنى بأننا لحمة واحدة في تجارب صدمتنا في خيبات مؤلمة.. وهذا الجسد الواحد مترهل تتماسك حجارته الصلدة بالكلام والهواء حتى تنكفئ على نفسك وتشد من أزرها وتخترع أسلوبك في الحياة كما اخترع الصيني أيقونته من الفراغ والله المستعان.