عمر إبراهيم الرشيد
يشكل أصحاب المهن والحرف الأساسية قاعدة اجتماعية واقتصادية تمنح مجتمعهم ودولتهم قوة وتسهم في حمايتها اقتصاديًا واجتماعيًا، إضافة إلى أن قوة هذه القاعدة، أي أصحاب المهن والحرف الأساسية، تشكل وجهًا حضاريًا إِذ يعني ازدهارها أن المجتمع الذي تنتسب إليه يعتمد على سواعد أبنائه في البناء والرصف والكهرباء وخدمات البنية التحتية والإعاشة وغيرها من المهن الأساسية. هذا هو المبدأ والمفهوم الحضاري العام وفي كل المجتمعات،
إلا أن هذا المبدأ يعتمد على التشجيع والدعم الرسمي المادي والمجتمعي المعنوي على حد سواء.
وقد شخص الدكتور جاسر الحربش في زاويته في هذه الصحيفة الخلل الواقع في مجتمعنا نتيجة تكليف الأجانب لتقديم كل ما نحتاجه تقريبًا من خدمات عامة وأساسية، مما يتسبب في نزف اقتصادي مهول وخلل اجتماعي على المدى الطويل، والدكتور جاسر لا يكتفي بوضع أصابعه وسماعته على مكان الداء في أجساد مرضاه، بل يشخص علل مجتمعنا بأسلوب الطبيب الحكيم، وما نحن إلا جزء من هذا العالم يصيبنا ما يصيب بقية البشر ولسنا ملائكة نمشي على الأرض.
وبالرغم من أن المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني تخرج الآلاف سنويًا وبتخصصات مهنية مختلفة، إلا أن أولئك الخريجين ليس لهم وجود فعلي في السوق، إِذ يعمد معظمهم إلى البحث عن وظائف في القطاع العسكري أو في خدمات الصيانة في الدوائر الحكومية، أو في شركات ومؤسسات خاصة.
وكل هذا حسن ولا غبار عليه إِذ من الطبيعي العمل لتأمين رغيف الخبز، إنما العمل الحر بفتح محل لتقديم خدمة مهنية معينة قد يدر دخلاً يفوق ما يتحصل عليه المهني في وظيفة عامة أو خاصة أضعافًا كثيرة، إِذ يكفي التذكير بتحويلات العاملين الوافدين التي تبلغ أكثر من مائة مليار ريال سنويًا. هذا عدا عن الطريقة التي تتبعها أمانات وبلديات المدن والبلدات في المملكة من الفسح لمئات الدكاكين في شارع واحد ولكل المهن، تدار وتشغل من قبل وافدين، في هدر اقتصادي وخلل اجتماعي وبيئي وبصري عجيب، وقد كتبت عن هذا مرارًا دونما صدى وللأسف الشديد.
مقترح أقدمه إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية، بدعم المهنيين من أبناء هذا الوطن، وذلك بإنشاء مجمعات خدمية في كل مدينة بدءًا بالمدن الكبيرة ومن ثم يتم تعميم التجربة، يتكون مجمع الخدمات المهنية هذا من محلات ودكاكين يتم تأجيرها للمهني من دون مقابل، تشجيعًا له ودعمًا، بحيث يحوي هذا المجمع كل الخدمات المهنية والأساسية التي يحتاجها المجتمع، من كهرباء ونجارة وبناء وسباكة وميكانيكا وغيرها من المهن.
هكذا مجمعات سوف تشجع أفراد المجتمع على التوجه إليها، إِذ إننا مجتمع محب للخير ولله الحمد وإن اشتكينا من النوازل الاجتماعية، وأثبتت أحداث عديدة وفاء هذا الشعب لوطنه ودولته، ولسوف يتوجه الكثيرون لدعم هؤلاء المهنيين السعوديين بطلب خدماتهم من منطلق وطني واجتماعي وهذا ما أتوقعه.
وبالطبع لن تغني هذه المجمعات الخدمية عن اليد العاملة الوافدة تمامًا ومن الصعب ذلك لكنها ستخفف كثيرًا من الاعتماد الكلي على الوافدين كما هي الحال الآن وبالتدريج، وكما قلت ستكون رافدًا اقتصاديًا واجتماعيًا كذلك وتشكل أمانًا معيشيًا للآلاف، شرط أن يتم الدعم الحكومي من قبل الوزارات والقطاعات المعنية، عن طريق تسهيلات وإعفاءات وخدمات تقدم لهم، فيخف الضغط على التوظيف التقليدي في الوزارات لهؤلاء الخريجين ويمارسون مهنهم وتخصصاتهم في السوق كعمل حر. ومن المجدي والداعم لهم كذلك تأسيس كيان يمثلهم ويسهم في تطوير مهنهم ويكون صوتهم، على نمط جمعيات المهن الأخرى الموجودة حاليًا، كان تكون تحت مسمى جمعية المهنيين السعوديين. ليس من العيب أن يعمل لدينا إخوة عرب وأجانب في مختلف المهن والخدمات، بل إن دولاً كبرى متقدمة تقنيًا وصناعيًا وعسكريًا، جل من يمتهن قطاع الخدمات والمهن الأساسية تحديدًا فيها هم من المهاجرين أو المقيمين، خاصة إذا كانت نسبة المتعلمين تعليمًا عاليًا هي الغالبة في تلك الدول وبتخصصات عالية ودقيقة وعلمية، لكن العيب أن توكل كل المهن والخدمات لدينا وبجميع فئاتها إلى الوافدين، بينما يهرب مهنيونا إلى الوظائف الحكومية أو ما شابهها بحثًا عن الأمان الوظيفي كما هو السائد. وأشير بما سبق وأن طرحه الدكتور جاسر الحربش مشكورًا في زاويته بأن تفضيل أصحاب الشهادات النظرية والأكاديمية على أصحاب الشهادات المهنية ماديًا ومعنويًا، على المستوى الحكومي وحتى المجتمعي هو ما جعل تلك المهن بيد الوافدين يجنون منها الشهد ولا حسد، فلكل مجتهد نصيب، والله من وراء القصد.