الهنوف صالح الدغيشم ">
تشير إحصاءات وزارة الصحة حول نسبة عدد ذوي الاحتياجات الخاصة إلى وجود 8 لكل ألف من المواطنين، لكننا قلما نشاهدهم في الأماكن العامة، فكأنهم خارج نسيج المجتمع وبعيدين عن أنشطة ذويهم.. كأنما هناك شعورخفي بما هو مخجل، وهو قطعا ليس كذلك، أو تحسس مهذب من طرف الأهل مما قد يكون مزعجاً لمشاعر غيرهم عند مشاهدتهم في سوق أو حديقة أو مطعم، أو أي مكان ممتع.
هل القدرة الاقتصادية سهلت توفر خادمة أو ممرضة منزلية لذوي الاحتياجات الخاصة، مما حول بيوتنا لسجون عائلية بالنسبة لهم؟
صحيح أن مستوى العناية بنظافتهم وتغذيتهم في المنازل قد ارتفع في السنوات الأخيرة نتيجة للوعي العام بهذين الجانبين، لكن يظلون في حالة عزل ومركونين بعيدا عن المشهد العام.
ما مدى محاولة دمجهم في المجتمع، والاهتمام بهم من الجانب الصحي والاجتماعي، ما مدى العناية بصحة أسنانهم مثلا؟ هل ثمة منظومات صحية واجتماعية تهتم بمتابعة حياتهم وصحتهم وتطورهم؟
إننا بحاجة ماسة لإنقاذ هذه الفئة من المبالغة في العزل والتغييب، ودمجها مع المجتمع، مع الأخذ بالاعتبار أن حالاتها متفاوتة، لكن عموما لها حق الشعور بتفاصيل الحياة، إنه واجب الجميع على صعيد المجتمع أولا، المتمثل في الوالدين والأقارب، ثم الحكومي والمؤسسات الأهلية ثانيا.
فها هو العيد يقترب، لعلّنا نراهم في مصليات العيد مع ذويهم، وفي اجتماعات ولقاءات يوم العيد، فيستشعرون البهجة.
كنت مرة في مطعم مع صغيراتي في ألمانيا، انتبهت لمجموعة من خمس نساء على الكراسي التي أمامنا، وواحدة منهن، بدأت تغني نحول، نحول، كأنها تستنجد بقايا ذاكرة الطفولة، فلربما لا شيء بعد نحول تلقته في حياتها، كانت تبدو مجهدة، اقتربت منها امرأة مرافقة لها ومنحتها كوبًا من الماء، وحلاوة مص لتلهيها عن الغناء، وأخرى بدأت تقف ثم تجلس، تقف ثم تجلس، دون توقف، استنتجت أن هذه المجموعة نساء من ذوي الاحتياجات الخاصة، في رحلة مع أخصائيين اجتماعيين، وانتبهت ألا أحد يترقب ما يحدث سواي، حتى صغيراتي متآلفات مع هذا المشهد، بدت هذه المشاهد من نسيج الحياة في ألمانيا، فليس نادرا؛ بل إنه مألوف أن نرى في شوارع المدينة، ومطاعمها، وأسواقها ذوي الاحتياجات الخاصة، وبتسهيلات تقنية وبيئية واجتماعية.
أهلهم معهم أحيانًا، يحفزونهم على الحركة، والكلام مع الآخرين، يتركون لهم فرصة الشراء وممارسة تفاصيل الحياة، لا يسلبون منهم رغبة التواصل الكامنة في كل إنسان مع الآخرين، فحياتهم لا تموت مبكرًا، وأشياؤهم الصغيرة لا يزالون يتذوقون جمالها.
وقد لا يكون أهلهم معهم دوما، فأحيانا يفسحهم آخرون، فبما أن أغلب الشباب في الغرب يمر بتجربة عمل تطوعية وخيرية يكتسب منها مهارات سلوكية ومهنية، فإن مجالات التطوع متنوعة ومتيسرة للراغبين، فتجد في أيام الإجازة الأسبوعية شابا يصحب مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة لبضع ساعات في إحدى الحدائق والمنتزهات، وقد أخذهم من إحدى دور الرعاية التي تؤويهم ليفسحهم ويعطي فرصة لراحة العاملين في المأوى، قابلت مثل هذه الحالة ولفتني ابتسامة الشاب وصبره ومهارته في التعامل مع أشخاص مختلفين في تصرفاتهم، لاحظته كالأم الرؤوم وهو يقف على تناولهم وجبة خفيفة ولم تغب بهجتهم وضحكاتهم معه.
هذه المدن، هي مدن لا تكذب، لا تتزين، هي مفتوحة للجميع، لا أحد يقصى منها، لهذا ربما لا أحد يترقب، لا أحد يستشعر أن شخصاً مختلفاً في سلوكه وحركته وضحكته وصوته يجب حجبه وعزله عن المساحات العامة، بل إن النظرة العامة تقبله وتراه غير مختلف، الحياة للجميع، السعادة لا تسلب من أحد.
- طبيبة أسنان مبتعثة في ألمانيا