الوثائقي... الفني.. بوصفهما مثاقفة إبداعية ">
1- الحنين إلى المكان منسرباً في التاريخ الفردي
يحار قارئ نص «سقيفة الصفا»، ويتساءل: أي لونٍ من الكتابة هو؟.. كيف يصنف هذا العمل الكتابي لحمزة بوقري؟.. هل ينتمي إلى السيرة الذاتية.. أم إلى الفن الروائي؟
هل هو مذكراتٍ أم لوحاتٍ سردية غير متصلة تقف على حافة النص السيري أم على حافة النص الروائي... أم بين بين؟
بعيداً عن هذه التنسيبات أو التصنيفات الكتابية، يبزغ سؤال: أين تكمن جماليات نص «سقيفة الصفا»؟..
فلو عرفنا أن هذا النص البديع كتب قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وفي لحظة من القلق الفني والقلق التاريخي رام الكاتب بضغطٍ منهما أن يحبس لحظة تاريخية مهمة للروح الجمعي للمكان/ مكة، آخذاً في التغير والتحول، فبدت لنا روح التغير هاته ماثلةً في جوهر السرد ووتيرته وتراكم صوره ولوحاته الاجتماعية منسابة عبر تأرخة حميمة للذات في بوحها التلقائي وعند مستوى رؤاها المتوفزة.
يتساءل شيخ النقاد العرب الراحل إحسان عباس في كتابه التأسيسي «فن السيرة» متى يكتب الكاتب سيرته الذاتية؟.. فيجيب: «أن كل سيرة فإنما هي تجربة ذاتية لفردٍ من الأفراد فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج وأصبحت في نفس صاحبها نوعاً من القلق الفني فإنه لابد أن يكتبها».. فهل ينطبق ما يقوله إحسان على كاتب «سقيفة الصفا» حمزة بوقري؟..
في رأي، تضافر عنصران مهمان عند لحظة كتابة حمزة بوقري لنصه هذا، هما «القلق الفني» المنتج من «قلق الغياب النفسي عن المكان.. وتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية»، متمنياً هنا إلا أكون متجنياً فيما أقوله على بعض حقائق تاريخ الكاتب الفردي، فمعرفة بعض الجوانب الشخصية للمؤلف ونمطية واقعه المعيش، وحياته الاجتماعية التي كان يمضي في سياقها لاشك يفيدنا - خلافاً لمفهوم النقد البنيوي الذي يميت مؤلف النص- في سبر أعماق النص الجمالية والقبض على جوهر تاريخيته.. ومتانة وشائجه مع سطح الواقع وأزمنته.. وفضاءاته المتعددة.
في زمن تألقه الشخصي على المستوى الوظيفي والحياتي والعملي.. عُرف عن حمزة بوقري عزلته الخاصة عن المجتمع/ المكان الذي تربى في حضنه لفترةٍ استغرقت جُل سنينه الأخيرة، وعن قرب عرفته متعالياً عن العلاقات العائلية المباشرة بالرغم من حنوه وعطفه على المحتاجين منهم، وقد كان نأيه عن الاستغراق في تفاصيل العلاقات اليومية، عنعناتها وهمومها الصغيرة ليس بغضاً لها بطبيعة الحال بل تجنباً لما يمكن أن تستهلكه هذه الهموم الصغيرة اللامنتهية فتشغله عن هموم البناء الشخصي.. بناء الحياة الجديدة التي خطط لها ضمن أفق مغاير وضمن فلسفة حياتية وحقائق خاصة جديدة من بينها اقترانه بأجنبية «زوجته سويدية».. والجو الأسري المغلق على ذاته ومكوناته ما أدى إلى تواصلٍ حذر وانتقائي مع أفراد عائلته الكبيرة... في نظري كل هذا دفعه إلى أن يستعيد ماضيه الجميل... ويستعيد ذكرى المكان العبقة ومشاغبات طفولته المنسية في نصه السردي البديع «سقيفة الصفا».. فكانت هذه الاستعادة كالكتابة التطهرية التي تصل ما أنقطع على البعد النفسي والزمني وتغسل ما شاب وتسرب في قنوات علاقاته ومسارات تواصله مع مجتمعه وأمكنته وأشياءه، كأن الكتابة هنا (كتابة النص) جاءت تعويضاً عن هذا الانفصام النفسي والمكاني الذي عاشه لفترة من زمن العيش حتى رحيله المبكر والمفاجئ عن عالمنا «توفي عن 52 عاماً».
في نأيه عن شبكة العلاقات العائلية والمجتمعية كما أبنت، بضغطٍ من أسلوب الحياة العملية الحديدة ونمطية الخصوصية العاطفية والزوجية المفارقة لتكويناتها الأولى وتشكيلات مركباته النفسية والعقلية والوجدانية، واجه الكاتب - لا شك- صراعاً داخلياً مواراً وعميقاً بحثا عن الأنا العميقة كما يطلق عليها الناقد المغربي محمد برادة.. هذه الأنا العميقة التي توارت أمام وطأة المواضعات الاجتماعية الماثلة وجدت ضالتها في الكتابة السير ذاتية كملاذٍ روحي أخير يشفي من مرارة الغياب القسري داخل نسيج العلاقات الاجتماعية الكلية، فأصبح الرجوع إلى ذكريات الطفولة وبدايات التاريخ الفردي التكويني استعادة جديدة للماضي في المخيلة وإعادة تأملٍ للمكان المنفلت والهوية المذوٌبة، وصار القبض باللغة والحكي والتخييل قبضاً للتاريخ الجمعي وحبساً للمكان المتحول عبر منظورات ورؤى وأفكار التاريخ الفردي واستيهاماته الذاتية.
2- الواقعي.. التاريخي.. والفني في نص « سقيفة الصفا»
«سقيفة الصفا» في نظري كنصٍ إبداعي تجاوزاً لكل التنسيبات الفنية يعد مثالاً على العمل السردي المغرق في خصوصيته وتاريخه الفردي والجمعي المرتقي لأفق الكونية من حيث بدت ترجمة العمل إلى لغاتٍ أخرى كالروسية والإنكليزية بمثابة مثاقفة إبداعية قدمت اللوحة الاجتماعية شديدة الخصوصية للمكان والزمان المكيان مكتملاً نسيجها عبر تاريخها الفردي وزمنها النفسي، وحيواتها.
والنص هنا عبر توثيقات المكان والبيئة المكية المتحولة، وعبر رصد طرق العيش والتفكير ومفردات الحكي ومسارب التغيرات التي انتابت مرحلة الثلاثينات والأربعينات في مكة المكرمة كما لاحظ الناقد الفلسطيني المعروف محمد صالح الشنطي في كتابه «فن الرواية في الأدب العربي السعودي»، يكاد يكون يكون بمثابة وثيقة اجتماعية فنية، مستعادُ فيها الماضي: أمكنته.. وثقافاته الشعبية.. وعاداته.. ورؤاه... معادُ ترميمها في مخيلة المؤلف كوثيقة فنية دالة على زمنيتها التاريخية والنفسية الآخذة في الانمحاء، هذه الزمنية المراوغة أستطاع حمزة بوقري اعتقالها عبر سرده/ بوحه الذاتي فصار النص ليس شاهداً فقط على غياب حثيث ومتواصل لقسمات المكان بل شاهداً على إرهاصات تحولات عميقة.
وثيقة اجتماعية غنية ومنطوية على خصوصيتها وزمنيتها المتحولة، تلبس فيها النص شكل الرواية لكنه ليس برواية.. انه سرديات ذاتية/ بوحية معطاة في شكل لوحات اجتماعية غير منفصلةٍ عن سياقات تتابعها الزمني وإن كان زمنها النفسي/ الفردي هو لحمتها وسداها.
كما نلحظ في نص «سقيفة الصفا» ذلك الانتقال المشوق في لوحاته الاجتماعية التي تشكل بنية النص الفنية من حضن الواقع والتاريخ والوقائع اليومية إلى حضن التخييل ومعمارية الرؤية الفنية التي تشف عن خطابها الفكري المستتر في ثنايا الحكي.. بمعنى ينجح هذا النص في تخلصه من سرد تفاصيل الواقع المحض أو استنساخه فوتوغرافياً.. فيلجأ إلى المتح من مخزون الذاكرة المتنامية طفولةً وشباباً متوسلاً طريقة في السرد والتخييل و مولداً لواقع فني مغاير هو بمثابة حضن آخر للرؤى الفكرية والفنية لكاتب النص/ حمزة بوقري، هذا التحول نلحظه جلياً في المشاهد والصور التي كشف فيها السارد/ محيسن عن اللحظات الحزينة والمؤلمة التي عاشها ما بعد وفاة والدته... يقول بعذوبة فائقة: «جلست على ذلك القبر الندي بعد أن رحل المشيعون وأنا لا أكاد أصدق أن أغلى إنسان عندي يضطجع تحت هذه الصخور التي صفها القبوري فوق فتحة القبر»... وعندما غادر المقبرة الظلماء وهو في شبه غيبوبة تثاقلت قدماه حائراً لا يعرف إلى أين يمضي، والتمعت في ذهنه كل الأماكن الحميمة: المقهى.. الحرم.. البيت.. المدرسة، لكنه ترك لقدميه اتخاذ القرار المناسب فوجد نفسه في جوف ظلمة أخرى هي ظلمة سقيفة الصفا غير هيابٍ لحلكتها الشديدة،.. يقول النص: «وحين فعلت ذلك أحسست إحساساً غريباً كما لو كنت ألج رحم أمي عائدا من حيث أتيت»... فكأن وفاة والدته هنا معادلاً موضوعياً لانمحاء ألفة مكة القديمة بعبقها.. وأمكنتها العريقة... وأنسها التاريخي.. وزمنها النفسي المنطفئ في الذاكرة.. وظلمة سقيفة الصفا التي تشبه ظلمة رحم أمه هي المعبر نحو بصيص من نور.. نحو ولادة جديدة، فموت والدته تركه عارياً منكشفاً أمام نفسه وأمام الآخرين لدرجة « كلما أصبحت في ماجهة مصباح أو ضوء من أي نوع... كنت ألاحظ أن الناس ينظرون إلي بطريقة موحدة بادئين بالحملقة في الجزء الأعلى من رأسي منتهين بقدمي».
كما يمكن تلمس هذه الرؤية الفنية للكاتب خاصةً في الفصل الذي تحدث فيه عن طرائق علاج المرض الخطير الذي أصاب والدته وخضوعه للاعتقادات السائدة والخرافات فنجد السارد إذا افترضنا أنه المؤلف ذاته منقاداً في منطق سرده البوحي لهذه الرؤى التقليدية دون أن يعني ذلك بالضرورة اقتناعه أو متبنياً لنتائجها بل هي سطوة الواقع وسطوة التقاليد تفرض نفسها تلقائياً في سياق السرد، لكن السارد الذي يكون تجلياً غير كلي لملامح شخصية المؤلف ينقل لنا صورة غنية الدلالة عن مستوى الصراع الداخلي الذي يعانيه إزاء إشكالية الفقد (فقد الأم.. وفقد المكان).. فقد الأم كما قلت ليس إلا معادلاً موضوعياً لفقد بكارة المكان والواقع المتحول وانمحاء المشهد المكي العبق في تاريخيته وتراثه وحيواته.. وأشياءه الحميمة.. هذا الانمحاء المتسرب من خيوط ذاكرة الطفولة يشير إليه السارد في صورة اللحظة المأزومة القاسية والمريرة التي عاشها محيسن بعد الفقد الفاجع للأم وهو كما قلت ما يؤول إليه النص في دلالة مشهد الولوج من جديد في ظلام سقيفة الصفا الذي يشبه ظلام الولادة الجديدة.. ظلام رحم الأم.
أخلص في ختام قراءتي النقدية العجلى لنص «سقيفة الصفا» إلى القول: كون هذا النص وثيقة اجتماعية فنية بامتياز، لا ينفي تدوينيتها للوقائع والأحداث والمحطات التاريخية للمكان/ مكة.. لكنه ليس تدوينا مجرداً من ذاتية السارد وليس في ذات الوقت ترجمة خالصة سير ذاتية خالية من الفنيات والتخييل والانزياح الريؤي على الرغم من أن السرد الذي جاء بضمير المتكلم كثيراً ما يوحي بأن النص المكتوب ليس إلا سيرة ذاتية أكانت لكاتب النص أو المكتوب عنه..!
فليست شخصية محيسن في « سقيفة الصفا» هي هي شخصية حمزة بوقري بلحمه ودمه كما في ملامحه الكلية وتكويناته الفكرية والنفسية من الطفولة حتى ما قبل الرحيل، غير أن الشخصيتين بالتأكيد تلتقيان في مرجعية التاريخ الفردي ولا تنفلتان من مرجعية التاريخ الجمعي وأعني به تاريخ المكان المكي.. جغرافيته.. وقائعه.. ثقافاته الطفولية.. وموروثاته البيئية والمعمارية... وحكاياته.. ومشاهداته.. وحقائقه الماثلة والآفلة.
هناك في النص البديع «سقيفة الصفا» قدر من الفن الروائي يرقى بالسيرة الذاتية إلى فنية التركيب والبناء، ولا يمكن مماثلتها ببعض السير الذاتية الأدبية التي جاءت كالاعترافات أو المذكرات الخالصة كاعترافات روسو أو سيرة أحمد أمين في «حياتي» أو سيرة احمد السباعي في «أيامي» على سبيل المثال، فسقيفة الصفا اختلفت عن كل هذه السير كونها من بواكير الأعمال الروائية التي تحقق فيها قدر كبير من تأثيرات المثاقفة الإبداعية فمؤلفها «حمزة بوقري جاء بمخزون إبداعي عالمي.. ليس قراءة بل ترجمةً وهضماً لتقنياتٍ فنية وإن بدت مكتفية في نسقها الكلاسيكي الواقعي، وسيرته الذاتية هاته ابتعدت عن صور التأسي والوعظية، وانطوت على ثيمة «الفقد والغياب» فكانت هي محور رؤيتها الفنية.. ففي النص نلمس ذلك الالتباس بين التذكر والتخييل والتركيب، ولا نستطيع أن نؤكد هنا أن هناك تطابقاً كلياً بين الشخصيتين: محيسن/ السارد، وحمزة/ المؤلف... لكن محيسن ليس بعيداً بأي حال من بعض أطياف شخصية حمزة بوقري على الأقل في بعض محطاتها... طفولتها... شبابها... وتكويناتها الفكرية والوجدانية.
** ** **
المراجع:
1- سقيفة الصفا/ حمزة بوقري
2- فن السيرة/ إحسان عباس
3- فن الرواية في الأدب السعودي/ محمد صالح الشنطي
4- فضاءات روائية/ محمد برادة
5- مجلة إبداع المصرية/ العدد 7-8.. 2008
6- مجلة الدوحة القطرية/ العدد 17، مارس 2009
- أحمد بوقري