د. نصرالله أبو طالب ">
لعل أكثرية من لا يعلمون بأن بالعالم ملايين من غير المسلمين يصومون على مدار العام لأيام كثيرة ولساعات طويلة لا تقل كل مرة عن ست عشرة ساعة باليوم طلباً للعافية فقط، وأنّ كثيرا منهم يتحدثون عن فوائد صيام يومين بالأسبوع أو صوم يوم وإفطار يوم أو صوم أيام بالشهر أو شهر بالسنة، كل ذلك لجني الفوائد الصحية التي يحملها الصوم للصائمين، وللمسلمين بالصيام غنائم أسمى في أخلاقهم ونفسياتهم وآخرتهم ورضا ربهم لا يتحصل عليها غيرهم لن أتطرق إليها هاهنا لضيق المقام رغم أهميتها.
ملامح من الكنوز الطبية بالصوم:
فما هذه المكاسب الصحية التي أسالت لعاب الناس حتى يجوعوا أنفسهم لساعات الطويلة بأيام كثيرة على مدار العام ؟ سيرى قارئي الكريم أنها حقاً كثيرة وأن نيل بعضها يستحق حتى من غير المؤمنين جوع الصيام وعنائه.
إن ارتباط تقليل السعرات الحرارية المتناولة كل يوم يطول العمرحقيقة طبية مشاهدة في كل الكائنات الحية من غير الإنسان الذي ليس من اليسير إجراء مثل هذه التجارب عليه، وقد أظهرت الدراسات الطبية أن الصوم المتكرر يحقق نفس فوائد التقليل من السعرات الحرارية، وأزالت الدراسات الطبية القناع عن دور الصوم في إحداث تغييرات ايجابية هامة بأنشطة الجينات والهرمونات الجسدية، فمن ذلك تنشيط الصوم للجين الوراثي SIRT1 على مستوى أنسجة الجسم كلها مما يساعد في منع الطفرات الوراثية التي تصيب الجينات وبالتالي حمايتها من الترهل والتلف ومن الإصابة بالأورام الخبيثة، إضافة إلى حماية الصوم لأطراف الكروموسومات المسماة تيلومير Telomeres من التآكل، ذلك التآكل الذي يعتبر أحد أسباب الشيخوخة الرئيسية بأنسجة الجسم وأعضائه، وتتسبب هذه التأثيرات للصوم في إحداث مجموعة من التغيرات الإيجابية الهامة بأنظمة المناعة وفي الحد من التهابات الأنسجة ومن تعرض الخلايا لظاهرة الموت التلقائي apoptosis.. وتظهر الدراسات حدوث هذه المكاسب وغيرها من خلال التأثير الإيجابي للحد من السعرات الحرارية أو للصوم على التفاعلات الكيميائية الخلوية المسماة بـAMPK, FOXO, mTOR, NF-kBK.. ومن هنا فلا عجب بارتباط تقليل تناول السعرات الحرارية وكذلك الصوم بطول العمر وغياب الأمراض المزمنة.
ولعل من التغييرات الهرمونية المغرية لمن بلغوا أشدهم أو تجاوزوه أثر الصوم في رفع مستويات هرمونات النمو Growth hormone ومادة BDNF وتخفيضه لمستويات هرمون الإحساس بالجوع Ghrelin والانسولين وتنظيم عدد آخر من الهرمونات الصادرة عن الخلايا الدهنية إضافة إلى تعديل مستويات الكولسترول والدهون الثلاثية وإحداثه لتغييرات ايجابية بالبيئة الجرثومية بالأمعاء مما يزيد من نسبة الجراثيم المفيدة المرتبطة بطول أعمار كائنات التجارب.. تجدر الإشارة هنا الى أن بعض هذه التغيرات الهرمونية تفسر لنا ظواهر الإحساس بالخفة الجسدية ووضوح التفكير وحدة الذكاء وقلة الإحساس بالجوع رغم الانقطاع الطويل بدون أكل.. ومن هاهنا كذلك يمكننا القول بدون تردد أن الصوم يساعد في المحافظة على حيوية الجسد وتخفيف آثار تقدم السن عليه.. ومن هنا تسود قناعة متزايدة بدور للصوم في الوقاية من الكثير من الأمراض المزمنة كالسكري والسمنة والضغط وتصلب شرايين القلب وضعف الكلى المزمن والزهايمر والرعاش وأمراض القولون وربما كذلك أمراض الروماتيزم وأمراض أخرى كثيرة.. وقد يتفاجأ الكثير منا حين يعلم بأن بعض الدراسات أشارت الى أن الصوم مرتبط بحماية من السكري والأزمات القلبية تقرب من 60%..
ولعل أكثر عضو يخشى على وظائفه من الصوم الشرعي هو الكلى.. ويسرني هنا الإشارة إلى تكرر الدراسات الطبية العديدة المؤكدة لسلامة الصوم حتى على من يعانون من ضعف بالكلى وحتى لو كان الصيام يتم في أيام الصيف.. وفي الواقع فإن خبرة أطباء الكلى من خلال ممارساتهم اليومية تأتي مؤكدة لسلامة الصوم على وظائف الكلى..
نصائح للصائمين:
لن أتطرق هنا إلا لتقديم النصائح المتعلقة بالصوم من الجانب الطبي.. ولعلي أذكر للقارئ هنا أن الخطوة الصحية التي تنافس الصوم في آثاره الإيجابية على الجينات ونظم الهرمونات المذكورة أعلاه إلى حد عجيب هي ممارسة الرياضة البدنية بنوعيها الحركي و المقاوم (كحمل الأثقال).. ومن هنا فستكون نصيحتي الرئيسة لنفسي ولإخواني هي ممارسة رياضة بدنية شبه يومية - ما أمكن- مصاحبة للصوم لتضاعف من آثار الصوم الإيجابية المذكوره أعلاه.. ولعلي أذكر القارئ بأنّني أدركت جيل الآباء والأجداد ولهم عادة الخروج جماعات للمشي في الساعة الأخيرة من نهار كل يوم صيام.. وهو الوقت المرشح طبياً لحرق الدهون والتخفف من سمنة البطن..
من الواضح أنّ الاستفادة الطبية من الصوم تستدعي التخفيف من مجمل السعرات الحرارية التي يتناولها الأفراد الصائمون وخاصة تلك السعرات القادمة من النشويات الخالصة كالقمح والرز والبطاطس.. ولعل من الحكمة كذلك اجتناب تناول الأغذية المالحة مع السحور لتقليل الاحساس بالعطش وتغيير موعد قهوة الصباح لمن اعتاد اليها الى المساء لتجنب أثرها في ادرار البول من أول ساعة بالصوم.. ومثله يقال لمرضى الكلى والضغط حيال تناول مدرات البول ونقلها الى المغرب بدلا من وقت السحور.. مع اجتناب الأغذية الغنية بالبوتاسيوم كالتمر والموالح والبطاطس لمرضى القصور الكلوي..
ولعلي لا أحتاج لتذكير القراء إلى محاولة تجنب التعرق أثناء النهار ومن ذلك تجنب التعرض للشمس الحارة مباشرة وتجنب الرياضة البدنية وقت شدة الشمس وبعيداً عن وقت الافطار.. والمحافظة على تناول السوائل بشكل متكرر طوال الليل وعدم الاقتصار على تناول الماء بكميات كبيرة عند الإفطار والسحور..
وينبغي على المرضى الذين يتناولون أدوية أساسية أن يفطروا إذا ناموا عن سحورهم وعن تناول الجرعة الصباحية من أدويتهم.. وأذكر هنا على سبيل المثال أدوية الضغط والقلب وسيولة الدم وعلاجات زراعة الأعضاء والمضادات الحيوية الأساسية..
ولعلي أختم هنا بالتأكيد على ضرورة التوجه العام نحو تناول الغذاء الصحي المتوازن الطبيعي.. وهو ما يعني تجنب المواد الغذائية المعلبة والمحضرة بالمصانع بل والمطاعم مع التخفيف من النشويات واجتناب اضافة السكر لمشروبات الشاي والقهوة والتخفيف الكبير من تناول الحلويات مع الإكثار من تناول الخضار بأنواعها المختلفة والتوسط في تناول الفواكه واستبدال الزيوت النباتية كزيوت الذرة ودوار الشمس ما أمكن بزيت الزيتون وزيت النارجيل..
ويبقى قبل وبعد كل هذا التوجه بالصوم طلبا للآخرة ولرضا الله عزوجل قبل أي مكسب دنيوي بما فيها المكاسب الصحية المشار إليها.. نٍسأل الله لنا ولكم تجاوزه وقبوله طاعاتنا.
- استشاري أمراض كلى بمستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام