{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إن هذه الآية وقعت بين آيات القتال، وقد يظن ظان أنه لا يوجد ارتباط بين الآية وتوسطها، لكنك إذا تمعنت وتأملت وجدت أن هذه الآية وقعت في أنسب مكان، وهي في الواقع متناغمة متناسقة مع السياق بشكل مباشر، وسنشير إلى بعض الفوائد التي يستفاد منها مما تساعد بحول الله القارئ إلى توسيع مداركه وفهمه، فنقول مستعينين بالله متوكلين عليه.
الفائدة الأولى؛ أن القتال كما هو معلوم صعب على النفس، ولا يقدم عليه إلا الشجعان، فالجبناء لا يقدمون على القتال ولا يقتربون منه ولا يقرعون أجراسه.والآية تقول في مطلعها (مَّن ذَا الَّذِي) وهذه لفظة تستخدم عند المهمات الصعبة التي لا يقدر عليها أي أحد. فالعرب لا تقول من ذا الذي يشرب الماء البارد في الصيف، لأنه أمر سهل يقوم به كل أحد. لكنهم يقولون من ذا الذي يخرج إلى الفارس ويقاتله، لصعوبة المهمة وأنه ليس كل أحد يجرؤ عليها، وإنما الشجعان الأقوياء. فاستخدمت هذه اللفظة لتبين صعوبة هذه المهمة على الأنفس وهي الإنفاق في سبيل الله، وأن ليس كل أحد لديه القوة واليقين لإخراج هذا المال.
الفائدة الثانية؛ بين سبحانه أن هذا القرض يجب أن يكون قرضا حسنا، أي نظيفا معلوم مصدره ومعلوم مصرفه. فالله جل جلاله غني عن المال الحرام، فالذي يخرج المال رياء أو لغرض دنيوي أو لا يكون من أطايب ماله لا يوصف بأنه حسنا. فهذا القرض إنما هو واضح الدلالة معلوم المواصفات، مما يجعله صعب على الأنفس لصعوبة شروطه، ولشح النفس لكسب المال فإنها لا ترضى أن تنفقه. فالإنفاق في الأصل صعب على الأنفس، وهو أصعب وأشق مع هذه المواصفات.
الفائدة الثالثة؛ إنه لصعوبة هذا الأمر ولمشقته على الأنفس سمى الله جل جلاله نفسه مقترضا ترغيبا للمؤمنين الصادقين. فالله سبحانه هو الذي أعطاك في المقام الأول وهو الذي يرزقك من حيث تعلم ومن حيث لا تعلم، فلما أراد أن يرغب في ذلك جعل هذا القرض إنما يكون له مع عدم حاجته له سبحانه. فالإنسان لا يقرض من لا يضمن أنه سيرجع ماله كاملا غير ناقص، ونحن نرى المقرضين في زماننا يأخذون من المقترضين ضمانات تفوق قيمة القرض حتى يضمنوا بذلك قيمة قرضهم مع فوائده. فإذا علمت أيها المؤمن أن الذي تقرضه هو مالك الكون بما فيه مما يجعل قلبك في موضع مستقر ومتيقن من أن هذا المال إنما هو في مكان آمن. والحقيقة أن إقراض الله جل جلاله آمن من القروض الدنيوية التي هي عرضة للآفات في أي وقت كما هو مشاهد.
الفائدة الأخيرة؛ إذا علمنا صعوبة هذا الأمر على الأنفس وأن ليس كل أحد يقدر على أن يخرج المال من جيبه إلى غيره، أصبحت العلة من وجود هذه الآية بين آيات القتال واضحة من أن القتال إنما هو صعب على الأنفس أيضا، فكان التذكير بالإنفاق مناسبا. كما أن القتال هو مقاتلة للعدو، فالإنفاق إنما هو مقاتلة للشح المتمكن في الأنفس. والمسلم إذا استطاع أن يتغلب على هوى نفسه فإنه سينصر على عدوه بنصر الله له. فالشجاعة التي يحتاجها المقاتل في سبيل الله إنما هي نفس الشجاعة التي يحتاجها المنفق في سبيل الله. فالمقاتل يبيع نفسه طالبا ما عند الله من الفضل، والمنفق يبيع ماله ابتغاء مرضات الله.
فقتال نفس يسيل الدماء وقتال بالكرم يرمم ويبني ما أنهدم من حياة الآخرين وهو فلاح ظاهر وباطن قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي