عبدالحميد جابر الحمادي ">
أسهم الأدباء على مر العصور في تكوين الفكر التربوي والاجتماعي والسياسي، وتوضيح معالمه وقواعده، عبر مؤلفاتهم المليئة بالأمثلة والقصص والروايات والنصائح، ولا يدرك عمق هذه التركة النفيسة وأهميتها، سوى المتخصصين والمهتمين بعلوم الأدب العربي، والباحثين في علم النفس والاجتماع والتربية والسلوك، فالأدب كان وسيظل عنوانًا على رقي الأمم والشعوب والحضارات، وبواسطته تعالج سائر المشكلات والمثالب الاجتماعية والسياسية والتربوية، بعد المصدرين الأساسيين القرآن العزيز والسنة الشريفة.
والصداقة أحد أبرز الموضوعات التي تطرق إليها الأدب العربي والأعجمي، لأجل إيضاح أهميتها وخصوصيتها ومقومات نجاح اتصالها، فهذا ابن المقفع استعرض في كتابه (الأدب الصغير والأدب الكبير) خصائص وأدبيات معاشرة الصديق لصديقه، وملامح وأسباب تنمية الود والوصال، وما للصديق من حقوق وواجبات تستلزم الإيفاء بها، وتطرق بعده أبوحيان التوحيدي، لا سيما في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) وكتابه الآخر (الأصدقاء)، مما يعطي دلالة واضحة بأن الاهتمام والعناية بهذه الشعيرة الإنسانية توالى منذ القدم، لما تحتوي عليه من معانٍ سامية كالوفاء والمؤازرة والكرم والتعاضد والرأفة والإيثار.
ومن أبرز الذين عظموا شأن الصداقة ومنحوها قدرها المستحق عملاً وتطبيقًا، كاتب دواوين الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد الأموي الأديب والوزير والمفكر عبدالحميد الكاتب أحد أدباء القرن الثاني، الذي عرف عنه إخلاصه ومودته ومحبته وإيثاره الذي لم يسبق إليه أحد، سوى في عهد صحابة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة مع نديمه وصديقه عبدالله بن المقفع، فقد جمعهما وصال الأدب ونعيم الحكمة، بالرغم من تباين واختلاف مشاربهم الدينية والروحانية، فابن المقفع اعتنق المجوسية، والكاتب نشأ على الفطرة الإسلامية، وليس أدل وأقوى على كريم الوفاء والتفاني بينهما هذه القصة المعبرة: «لما سقط حكم مروان بن محمد الأموي، فر عبدالحميد الكاتب الذي كان وزيرًا له، ليختبئ في بيت ابن المقفع، فاشتد الطلب عليه وانتشر الجند للقبض عليه، حتى وصلوا إليهما، فسأل الجند أيكما عبدالحميد وزير مروان بين محمد؟ فأراد ابن المقفع أن يبذل دمه وحياته لصديقه فيقول (أنا)، فأبى الكاتب أن يقتل صاحبه فداء له، ويكون أكرم وأجود منه، فخرج وقدم نفسه». المصدر: أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام.
وإخوة الصداقة ليست هي إخوة القربى، والإنسان بطبيعته محتاج إليهما جميعًا، ليشعر بالانتماء والقوة والأمان، فالأخ القريب تصلك به وشائج الرحم الفطرية، لكن قد تغيب بينكما مشاعر الود والتفاعل الشعوري والانسجام الفكري الذي ينبثق عنه التقارب والتكامل والتفاعل بخلاف الصديق ولا سيما الحميم المخلص المحب الذي يسمع إليك بأدب واهتمام وينصحك بصدق وإخلاص فيفرح لنجاحك ويحزن لفشلك ويؤازرك في عزمك إذا ازددت نجاحًا ازداد سرورًا يطوي في قلبه لك الخير والمحبة والإخلاص.
لذا حين سئل عبدالحميد الكاتب: أيهما أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: أخي إذا كان مثل صديقي».