سامي البطاطي ">
في ظل تقدم الحضارة المادية الذي يشهده العالم ويقوده أقصى الشرق والغرب؛ يبيت العالم الإسلامي في درجة الضيافة لتلك الطائرة المادية، والمسلمون مشغولون في هذه الرحلة ما بين قارئ لجريدة الـ«كنا» ومدون لكتاب الـ»كنا» ومتحدث عن حضارة الـ«كنا» التي ما زالت الأقلام تتغنى بها لتسلي نفسها تخلفها، فباتت تلهث خلف أسماء أعلام المسلمين الذين خدموا العلم المادي كابن الهيثم والخوارزمي وابن حيان والإدريسي وغيرهم.
ولما أُصيبت تلك الأسماء بداء التكرار، بينما هي تتجدد عند الغرب والشرق انتقلت الأقلام لتعزف سيمفونية جديدة تدَّعي التبني العلمي أو الأمومة العلمية التي تتبنى كل تقدم علمي ولو سفاحاً، فتراها تردد أن العلوم الجديدة ما هي سوى مستخلصات أو سرقات من التراث العلمي الإسلامي، وكأن العلوم المادية التي بحثها المسلمون هي نتاج مستحدث وليست إرثاً وصل إليها من الحضارات القديمة كاليونانية!.. فالعلم المادي إرث ينتقل من جيل إلى جيل ومن حضارة لأخرى، فمضيع لإرثه ومنمٍ له! وتمتدح الأمة بقدر خدمتها واستثمارها لهذا الإرث.
كما حق لنا أن نفتخر بما قدمته الحضارة الإسلامية للعلوم المادية، فإن الإنصاف يحتّم علينا أن نثني على ما قدمته وما زالت تقدمه الحضارة الغربية والشرقية في خدمة العلم المادي أو التجريبي.. ولا أظنني سأُبالغ إن قلت إن ما قدمته الحضارة الإسلامية لهذا العلم منذ نشأتها لا يُشكّل عُشر ما قدمته الحضارة الغربية في القرن الماضي، وما تقدمه الآن في القرن الواحد والعشرين.. فهي ثورة علمية تقنية لم تشهدها البشرية من قبل، وفيها ظهرت أعظم تجليات تميز هذا الإنسان المخلوق عن غيره وسر استخلافه في الأرض.
إن الثورة الهائلة والحضارة التي وصل إليها الإنسان (أو الإنسان الغربي والشرقي) تعد نقطة تاريخية وتحولاً عظيماً في تاريخ الإنسان، فالعلم طوال القرون الماضية كان حبيس الدفاتر والكتب والنظريات ولم يكن يعكس أو يغير من واقع الإنسان في حياته سوى ما كان ربما من تطور في البنيان، وأما حياة الناس العامة فما زالوا قروناً على الدواب يرتحلون ومن نار الحطب يستمدون الدفء والنور، أجيالاً مضت وقروناً خلت.. ولو أنك وضعت إنسان الخامس قبل الميلاد في الخامسة عشرة بعد الميلاد لما استنكر شيئاً، لكن البشرية اليوم وإنسان الشارع بات ممتناً للعلم وللثورة الصناعية التي صنعها العقل الغربي.. فبات العلم متجلياً في كل مظاهر الحياة، ما تكاد تقع العين إلا على ثمرة من ثمار حضارتهم العلمية.. فقلّب بصرك حيثما شئت ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير.
فلو أنك وضعت إنسان القرن الثامن عشر بيننا، لأنكر أن الحياة هي الحياة وأن الأرض هي الأرض، ولظن أنه في عالم الآخرة قد بعث أو على كوكب آخر قد نقل.
إن آلاف البشر في هذه اللحظة يحلقون في السماء بفضل حضارتهم، واستطاعت تلك الحضارة في نقلة نوعية كبيرة أن تخرج الإنسان من عالم الأرض ليطأ القمر، وتستعد الآن لإرسال الإنسان الذي ما عارفت أقدامه منذ خلق أبيه آدم غير الأرض إلى الكوكب الأحمر (المريخ).. فأي جنون علمي هذا الذي سيخرج بالإنسان إلى عالم آخر يختلف في قوانينه وطبيعته اختلافاً كبيراً؟
لقد مكثت أيام مراهقتي في بلادهم ثلاثة أشهر فلم أفتن بنسائهم ولا بمظاهرهم كما أفتن اليوم بعلومهم وأنا في عقر داري.. وكلما رأيت الدقة العلمية التي قامت عليها علومهم، وكيف سخّروا نواميس الطبيعة لخدمة الإنسان، وجدت في روحي خفقة وخفة وذهولاً.
ينبغي أن نخرج من حالة التعامي التي يحاول ترويجها البعض في التقليل من شأن هذه الثورة التي صنعها الغرب في العلوم التجريبية، فقد أضحت شمساً لا يمكن أن يحجب نورها قلم ولا أن يطفئ سراجها صوت.. حتى أعلنا الاستسلام يوم سلمنا لهم جامعاتنا وطلابنا، فصارت علوم الطب والفيزياء والرياضيات والأحياء والكيمياء والهندسة بشتى فروعها لا تدرس إلا عن طريق كتبهم منذ دخول الطالب الجامعة وحتى تخرجه منها، بل حتى علوم الاجتماع باتت ترتمي بأحضان كتبهم، ولم يتبق من علومنا التي من تراثنا ونتاجنا سوى علوم الدين!.. فماذا أفادتنا أقلام حضارة الـ«كنا» ودعاة المثالية سوى تخدير الأمة وخداعها. إن الحقيقة المرة التي لا يود الكثيرون سماعها هي أننا تأخرنا بل توقفنا منذ عقود طويلة، وبتنا عالة نأخذ ولا نعطي، نأكل ولا نطعم.
ولن أصف الأمة بأنها قد ماتت وتخلفت عن قطار العلم إلى الأبد، بل سأبقي بصيصاً من أمل، لن يتحقق إلا بإدراك الأمة أولاً موقعها وتأخرها، وأن لا تكل هذا التأخر إلى غيرها، وأن لا تنتظر من عدوها أن يرفع يده عنها لتنهض، فسنة التغيير التي كتبها الله {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.. قد جعلها الله بأيدينا نحن لا بأيدي غيرنا!
ليس الفتى من يقول كان أبي... إن الفتى من يقول ها أنا ذا!