سامي البطاطي ">
من أشد ما أجده في نفسي هو امتلاؤها معانٍ لا أقدر على البوح بها ولا بثها للناس. أضطر لحبسها في صدري فتأبى عليّ، فأعيش بين نارين:
إن أنا كتمتها وحبستها آلمتني، فهي لم تعتد حياة العبودية والعيش خلف أسوار الصدر، وإن أنا أظهرتها للناس غضبوا عليّ ونقموا وظنوا ظن السوء، فقولوا لي بربكم ماذا أصنع؟
أأرضيكم وأغضبها؟ أم أغضبكم وأرضيها؟
«أو كل ما يعرف يقال؟ أما يسعكِ السكوت؟» أحاول إقناع نفسي فما ترضى، تعاتبني وتتهمني أني أسجنها في صدري جورا وظلما وأن الحق معها، وواجب الحق أن يظهر لا أن يَتستّر خشية الناس. إنها تحاسبني على عبارات الحرية التي طالما رددتها، وخطب الشجاعة في إظهار الحق التي بحّ صوتي وأنا أدعو الناس إليها، فلما جاءت نفسي لتتحدث بما تراه حقا ولا يُغضب ربها أسكتُّها وألقيتُ بها في سجون صدري كي لا يسمع نداءها وصرخاتها أحد.
أتسمحون لي يا أعزاء ويا أحباء ويا من أشاركهم يومي وليلي وأتقرب إلى الله بمحبتهم وأدعو لهم أن أغضبكم لأرضيها؟ أعلم أن بعضكم سيقول ما ألقيت عبارات الأعزاء والأحباء إلا لتستميت قلوبنا لنرضى!
لكن اسمحوا لي، لماذا أُغضبُ نفسي لأرضي غيري؟ أولست إنما أحب رضى الناس عني لتسعد نفسي، وأتجنب غضب الناس لئلا تحزن نفسي. فالنفس عليها يدور كل شيء، وهي الغاية المخدومة، وما سعادتي إلا في نفسي. إن سعدَت هي سعدتُّ أنا، وإن شقيَت كان شقائي.
فماذا عليّ إن غضب الناس، ما دامت نفسي راضية سعيدة، ومن قبلُ رب العالمين راضٍ عنها، هكذا حسن ظني ورجائي فيه.
لا لن أصمت، سأتحدث بتلك المعاني التي في نفسي، وأطلق سراحها إلى حيث شاءت، إلى الخارج كما يسمي المناطقة. لكن المعاني تحتاج لغة تحملها، فالمعاني أعراض واللغات أجسامها. فمن يحمل عني المعاني؟
لقد عرضتُ مشاعري ومافي نفسي على اللغات، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها!
كلما أردت كتابة معنى هربَت اللغات مني، حتى توهمتُ أني قد ولدت للتوّ لا لغة لي أعبر بها سوى البكاء.
أصرخ بأعلى صوتي: ألا من لغة تحمل ما في نفسي!
فتجيبني كل لغة: نفسي، نفسي!
فرءاني حافظ إبراهيم والإعياء والحزن والهم على وجهي، ظلمات بعضها فوق بعض، فلما عرف مصيبتي أمرني أن أسرِ بمعانيّ نحو بحر العربية التي قالت في كبرياء:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فلملمت أفكاري والمعاني التي في نفسي، إلى بحر العربية، علّي أجد في أحشائها درة تحمل معنى أو صَدَفَة تترجم فكرة.
فقابلتُ بحرا لا كالبحار، صرختُ وصرخَت معي نفسي بكل ما تحمل من معنى: ألا فاحملي معانيّ وأفكاري! فرحلَت صرخاتي تحمل رسالتي إلى بحر العربية، ثم طال غيابها ولم ترجع، فعلمتُ أنها غرقت في أمواج البحر وقُتلَت، وفي أي قانون يُقتل الرسل؟!
توسلتُ إلى حروف العربية، إلى ألفها أن تتوسط لي عند بائها، وإلى سينها أن تشفع لي عند ضادها، توسلتُ للميم والنون والياء وما تركت حرفا ما ناشدته ولا سألته فما أجابتني سوى خيبتي!
فهممتُ أن أغوص بنفسي في ذلك البحر، فما إن ضربتُ بعصا أفكاري على طرفه حتى هرب البحر مني كما هرب من موسى فلم أرَ إلا يبسا خاليا لا قطر فيه.