عامر بن فهد الصويغ ">
اجتهد العقلاء والحكماء منذ قرون في بيان خطورة اللسان وفضول القول فضلاً عن نقل الأخبار دون تثبت مع الخوض في كل شاردة وواردة دون علم يذكر أو دراية تعتبر.
قال الله تعالى في كتابه الكريم {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} في سورة (ق) نهياً وتذكيراً للبشر بعاقبة الأمر.
كما وضح وفسر ذلك ابن كثير رحمه الله فيه تفسيره لقوله (أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة).
كما قال سبحانه وتعالى في سورة النور {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (24) سورة النور.
كما ذكر البخاري رحمه الله في الصحيح في كتاب الإيمان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) رواه البخاري ومسلم.
كما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله (ليس أحوج إلى طول سجن من لسان).
مما هو ملاحظ ومشاهد هذه الأيام أنه مع اتساع الفضاء الإعلامي بقطبيه الحديث (التواصل الاجتماعي وسائر المنتديات والمدونات في الشبكة العنكبوتية) والتقليدي (الصحف والفضائيات)، أصبحنا نرى كثرة المتحدثين في غير فنونهم فضج الفضاء وكثر اللغط كما عمت الجلبة والضوضاء فنجد التركيز غالباً على مواطن الاختلاف ومواقع الشقاق مع تكرار طرح ذات القضايا بسبب أو من دون سبب أو طائل يذكر.
يروى عن العسقلاني رحمه الله قوله: (إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بالعجائب)
قد يتعذر البعض بأن النقاش مطلوب ومحمود والتشاور من شيم العقلاء وهذا القول صحيح إذا ما تم ذلك دون تسفيه أو إقصاء مع ترجيح لرأي مسبقا بل واستمراء الجدال.
وهذا يثير التساؤل.. هل يشير ذلك إلى تغير في ثقافة مجتمعية؟
أذكر مجالسنا لا يجترأ على الحديث فيها وخاصة الأمور المفصلية وحوادث الساعة إلا من كان كبيراً في السن ووجد لديه سعة في العلم مع طول الخبرة فضلاً عن الحديث عبر منصات إعلامية أو الكترونية قد تصل إلى الملايين.
أم هي محاولة للمشاركة في صناعة الرأي العام وصياغة صوت الشارع؟
أيا كان الدافع وراء ذلك ينبغي الحذر من الحديث دون دراية أو علم والبعد عن النقل دون تحر بل يجب اجتناب تحليل الأقوال والتصريحات بتأويلها وكذا البحث عن سقطات الألسن ثم الوقوع في السرائر والأعراض والعياذ بالله.
وما أبدع تشبيه الشاعر حين قال:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت الرجل من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه
وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
كما أنشد آخر:
الصمت زين والسكوت سلامة
فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
فإذا ندمت على سكوتك مرة
فلتندمن على السكوت مرارا
وما أسهل أن يطلق لقب إعلامي أو ناشط اجتماعي فضلاً عن غيرها من الألقاب النخبوية التي لا يصح إطلاقها هكذا اجتهادًا على كل من جلس على كرسي المتحدث وظهر على الهواء أو عبر الأثير منظراً أو متكلماً فلربما سمع الحديث بعض العامة فأكبروا صاحبه وأخذوه عنه بل وعملوا بذلك الكلام.
أما بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي فالأمر أدهى وأمر فالفضاء أوسع والمجال مفتوح كما تفتقد المصداقية فتجد من ينتقد ويحلل ويفند بل ويتدخل في أعمال القلوب ويخوض في النوايا والسرائر والله المستعان.
ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال في رسالته (وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة إن شاء الله).
كما قال الجرجاني رحمه الله: (إذا تعاطى الشيء غير أهله وتولى الأمر غير البصير به أعضل الداء واشتد البلاء).
اتفق علماؤنا والحكماء من أمتنا كما ذكر العقلاء في كتبهم ووصاياهم أن فضول الحديث والاجتراء على الكلام بل والتنظير دون علم أو خبرة أشد ضررًا من الجهل وعدم الدراية، فالأجدر بالعاقل الفطن أن يصون لسانه وأن يتثبت من كل ما ينوي نقله أو الاستشهاد به.
كما ينبغي للكيس الحصيف ألا يتحرج من قول لا أعلم وأن يعزو الأمر إلى أهله والخبراء بنواحيه وترك الجدال وإن كان محقاً.