عبدالرحمن بن ساير العواد ">
إن التصورات الذهنية التي تحملها في داخلك والتي تشكل أسلوب حياتك كمجموعة عقائدك وقيمك وأخلاقك وسلوكياتك يؤدي إلى تشكيل خريطة وعيك بالمعنى الذي ستحمله وستتنقل به في هندسة أحداث حياتك طبقًا لتلك التصورات الذهنية وغني عن القول أن تلك الخريطة تشكلت في فترات متعاقبة خلال تجربتك الحياتية التي تعيشها. ولتبسيط فكرة الوعي بالمعنى أقول بأنه روحٌ تَعُوْد وقلبٌ يتحرك، وبمعنى أكثر وضوحا هو ذلك الإنسان المتجاوز للماديات نعم إن الوعي بالمعنى شيء جوهري غير منظور، ومن هنا لا بد من إثارته كل حين وآخر بين المثقفين وفي أوساط الناس عموما. ولعلّ سائلا يتساءل لماذا نتحدث عن الوعي بالمعنى؟ والجواب هو أننا أصبحنا نعيش في عالم مادي هيمن على معانينا من حيث نشعر أولا نشعر فانطفأت أو خفتت تلك الأنوار التي كان من المفترض أن تشع في داخل الإنسان أينما حلّ وحيثما ذهب لتنير له ولمن حوله الطريق فتقدمت قساوة القلوب على رقتها وردات الفعل على الفعل والاستهلاك الذي غايته فقط الاستهلاك دون مبررات ولذلك نجد عالم الاجتماع ماكس فيبر قال عندما تحدث عن التطور الحضاري: (متخصصون لا روح لهم وحسيون لا قلب لهم) إننا ونحن نتحدث عن الوعي بالمعنى نجد أنفسنا أمام رؤيتين الأولى تركز على المعنى والثانية تركز على المادة وليس بخاف على أحد أن الغلبة والانتشار كان للرؤية الثانية، ولهذا أسباب ليس هذا المقال لمناقشتها إن فلسفة الرؤية بالمعنى ترد الإنسان إلى الروح وأن هذه الروح لها غاية وهدف ونتيجة وأنها نفخة إلهية قدسية، وهذا يتفق مع تصورات الأديان السماوية ولذلك جاء التعبير القرآني ليقرر بأننا لله وله عائدون فقال تعالى: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) وأما الرؤية الثانية فهي على العكس تماما من الأولى إنها الرؤية المادية الماركسية التي ترد الإنسان إلى عالم المادة والطبيعة فقط.
إن الوعي بالمعنى يجعل الإنسان يتطور في سلم الوعي على المستوى الشخصي وليس ذلك وحسب بل ويعمل على مستوى المجتمعات الإنسانية ككل بحيث إن الوعي بالمعنى يعمل على تنامي الشعور بأن ننتمي إلى بعضنا البعض فتتفّعل برامج التراحم والتكافل والقيم الإنسانية الخلّاقة فيما بيننا، فيسود السلام والحب والجمال والبهجة، أما إن كنا غير واعين بالمعنى فإننا سنكون حينها منطلقين من رؤية مادية منغلقة وبالتالي مزيد من الصراعات والحروب والقتل والتطرف والتكفير والتفجير والغلو والفقر والكراهية إن هذه الرؤية أحادية قاتلة ومدمرة بانغلاق تام وتصوروا كيف وصل الانغلاق في فكر أحد الماديين من العلماء الألمان حيث بيّن في دراسة له وبطريقة علمية أنه لو تم القضاء على المسنين والمعوقين فإن هذا سيفيد الاقتصاد الألماني بتوفير 150 ألف طن مربى و 955 طنا من الزبدة، وبمحيط هذه الرؤية المادية تتساقط كل القيم الإنسانية النبيلة ومن الخطورة التي تحفنا إذا فقدنا الوعي بالمعنى أننا نصبح واقعيين تحت الأنماط الاستهلاكية من الدرجة الأولى وباحثين عن المنافع الاقتصادية وعن الشكليات الخارجية وأيضا سنجد أن حركة ذبذبات أفكارنا ومشاعرنا وذكائنا وأجسادنا غير منسجم ولا متسق ولا خلّاق مع حركة الكون وقوانين الحياة الطيبة الحلوة إنه ذلك الإنسان الذي يقف على حدود الشكل والمادة لا يبصر بشكل كاف ليشق طريق الوعي ويترقّى في سلمه.
إن الوعي بالمعنى ثقافة لابد من رفع مستواها وتفعيلها كأحد الركائز المهمة في أنفسنا وفي أسرنا بل وفي أوطاننا حيث إن الوعي بالمعنى يشكل فيما يشكله سلوكيات التفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع/ الفاعلين وهنا ثمة نداء أتوجه به إلى وزير الإعلام الجديد بأن يجعل هناك خريطة برامجية إثرائية معتمدة ومستمرة وواضحة ومعلنة في التلفاز والإذاعة حول تكوين المعنى لدى أجيالنا ونحن ندرك وكما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله بأن القائمين على الإعلام هم الذين يحددون قيمنا وهويتنا وأحلامنا انتهى كلامه رحمه الله وأزيد وأيضا بأنهم يحددون كذلك المعنى لأولادنا وبناتنا وعندما نوجد تكوين المعنى لأجيالنا سنكون في مأمن من أن تتخطفهم الأيادي القاعدية والأرجل الداعشية إذ إن ذلك سيعمق لديهم الاتصال الروحي الخلّاق مع الله السلام الرحمن الودود وفي نفس الوقت مع الناس والأشياء في المجتمع ولأضيف للأمر عمقًا وأهمية لننظر ونتأمل في بعض الجرائم المتكررة في مجتمعاتنا العربية كشرب الخمر مثلا أو الابتزاز أو التفحيط إنني أعتقد أننا لو تفحصناها لوجدناها جزءا من فلسفة كونية وتعبيرا عن اغتراب وغيابا للمعنى وبعدا عن السكينة وحيثما غاب المعنى ستغيب معه الروح وحيثما غابت الروح سيبدأ الجسد بالانفلات فهذا ينغمس في المشروبات الكحولية وآخر يتجه إلى الابتزاز وثالث إلى التفحيط ورابعا إلى السرقة وخامس إلى نكران حق الوطن وهلم جرا. وها نحن في مدرسة رمضان المباركة التي من رسائلها للإنسان: أن فيك أيها الإنسان جزءا من الروح فانتبه لها وقم برعايتها ولا تنغمس كل الانغماس في الماديات.
أيها الإنسان أنك مركز الكون أو لست أنت ممن قَبِلَ حمل الأمانة مع رفض بقية أجزاء الكون لتلك الأمانة: (إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) فأنت أيها الإنسان المركز وكل شيء آخر هو هامش فانظر وابحث في معناك وأدرك بأنك لا تتساوى يقينًا مع الأشياء المادية أيها الإنسان العظيم.وثق بأن من أجمل أساليب الاستمتاع والابتهاج في الحياة أن تكون مفتشا عن المعنى لك في هذا الوجود. إنك ما لم تكن واعيا للمعنى الخاص بك فلن تكون قادرا على إيجاد مساحات السلام والجمال والحب والبهجة في حياتك وحياة من حولك.المعنى نور من أنوار الله في أنفسكم فابحثوا عن ذلك النور.