عبدالعزيز السليم ">
أما قبل: بالمناسبة أوعز إلى من يقرأ تلك المقالات المتواضعة من الأصدقاء عن روتينيتها، وقدرة القراء على الإحاطة بها من مظانها ومن مصادرها ومواقعها المتكتلة في الكتب والنت. في حين سأضع - في حينه بإذن الله - مقدمة مشرعة تفضي إلى حقيقة الرؤية العربية لهذا الشعب العجيب الذي - فيما أعتقد - لا يمكن رصد حركته في الظل.. ولا يمكن أن تنبثق أي رؤية عنه إلا في معمعة الحياة معه والتعايش عن كثب في معاقله، والاحتكاك المباشر في حياته اليومية، والاقتباس اللحظي في تفاصيل الحياة اليومية التي تضطرني إلى التماس معه إلى حد استيعاب دقائق شؤونهم المشاعة في نسيج ديمومتهم ودبيب عيشهم وهمومهم.. ومن هنا سأضطر إلى تسلسل الحديث عن هموم تستدعي المقاربة اللحظية - الفارقة إن صح التعبير - بيننا وبينهم، والمقارنة بيننا وبينهم لا على سبيل الإعجاب وإنما من قبيل وضع النقاط على الحروف بهذا الصدد.
ولذلك سأواصل ثرثراتي في مقالي الرابع، وأتوكل على الله..
في مجالسنا العامرة، وما أكثرها.. ومن منشورات توعوية، أو قناة فضائية.. كل يدلي بدلوه عما احتوته جعبته عن الصحة.. وهذا يؤكد أننا لا نجهل حقيقة الأشياء، ولم تعدم وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في التنويه ولفت الأنظار والضجيج لخطورة الأمراض البديهية والمزمنة، ومعرفة أبجديات الصحة العامة.
لكن على سبيل الاستقراء المشاهد بموازاة هموم الحياة اليومية في بلاد التنين نشهد العكس، حيث الجهل المريع في الثقافة العامة وأبجديات الحياة العامة، مع التمسك بالتعاليم المستلهمة مما يُتاح لها في التعليم العام أو مما تشرّبته العائلة في سنوات من التربية والتعايش في سلك التعليم والإعلام والتجارب الموغلة في عمق التجربة، أو وسائل التوعية الدورية أثناء تقلبات المناخ والطقس والفصول الأربعة.
حين التأمل في حركية الحياة والدبيب المشاهد نلحظ اضطرار الإنسان إلى اتخاذ أسلوب معيشي أملته حقوق الطبيعة من المشي الدائب والوقوف لدقائق طويلة ومتكررة في محطات متوالية إلى أن أصبح سلوكاً يومياً معتاداً عاد بالتمرين اليومي الذي قد يغني عن ممارسة برنامج رياضي ليوم ما.. وهذا ما اضطررت إليه - على الأقل - في الطريق إلى المدرسة يومياً خمسين دقيقة ذهاباً وإياباً.. فكيف بالصيني عندما يمارس عملاً جاداً يدفع به إلى الكدح الذي صنع منه جسداً نشطاً يتفجر حيوية وقساوة بالرغم من ممارسة عادات ضارة كالتدخين واستعمال الكحوليات.
ويدعم الصحة العامة قلة ذات اليد التي تحاول قدر الإمكان الادخار للمستقبل وكفّ الرغبة عن الترف إلى استدراج النفس إلى الأكلات الفاخرة التي تهدد الجسد، واستبدالها بالمنشطات العشبية وجعل (النبات) برنامجاً يومياً لا يمكن الاستغناء عنه مهما كانت الظروف إلى الدرجة التي تجعله (يعجب) كيف لغيره أن يتخلى عن عنصر في وجبته يكون مصدراً لفائدة من فيتامين حقيقي غير مصنَّع.. ولذلك لا يلجأ الصيني إلى الوجبة الدسمة إلا لحاجة ماسة إلى البروتين الضروري حيث أصبح المفيد من نبات الأرض نكهة محببة لا يستغني عنها ارتضاها جسده وأحبتها نفسه، كونها مكسباً لا يقل أهمية عن المكسب المادي الذي يقدسه الشرقي بأطيافة وهو غريزة إنسانية ذكرتها الكتب المقدسة فضلاً عن حقيقتها الماثلة للعيان.
ونتيجة لهذا النمط الصحي القائم صدرت مؤسسات داعمة لهذه الحقيقة القائمة في المجتمع كالجامعات المهتمة بالطب التقليدي المعالج بأدوات تنأى عما يقترب إلى الجسد بأي شبهة علاجية غير طبيعية في محاولة لإعادة النفس والجسد إلى نصابه الطبيعي بأدواته التي صنعتها الطبيعة من حوله من مصادر متاحة كالطقس وعناصر الجدول الدوري والنبات وحركة الجسد والتكيف مع المناخ المصاحب.
ولذلك لجأت المستشفيات الأجنبية الدخيلة إلى استعمال الأدوية المصنعة من الأعشاب وسيلة للحد من استنزاف الصحة بأعراض جانبية من المصنَّعات الكيميائية التي هدّت الجسد ولو كانت نتائجها أكثر بطئاً، ومع أنه بطيء إلا أنه فعال.
ومصداقاً لتلك الرؤية الواقعية وفي الشارع العام نلحظ قلة الصيدليات نسبة إلى المتاجر الأخرى، وكأن الناس في غنى عنها، وكل قد اصطنع لنفسه حياته الصحية التي أصبحت مزاجاً طبيعياً وحمية تلقائية تعينه في حياته كالكائنات الطبيعية في أرض الله التي تصيب علاجها بالغريزة نحو الماء وجذوع الأشجار وجذور النبات وهواء الطبيعة والحمية في اتساق طبيعي.. كينونة النفس ونظام الكون.
ومع هذا التكتل البشري المعقد الذي يخفي في طياته حقيقته، إلا أننا مع الوقت نستفسر عن مظاهر أجبرتنا على البحث عن تفسير ظواهر متكررة كتكتل الناس في المطاعم في أوقات معينة مثل: 6-12-6.. وهذا الرقم المقدس يظهر انضباط تناول الوجبات اليومية الرئيسة الثلاث في أوقاتها، حيث يبدأ الافطار في السادسة والغداء في الثانية عشرة والعشاء في السادسة.. وأي وقت يبعد عن ذلك تمنح المطاعم تخفيضاً لإغراء الزبائن بالارتياد خارج وقت الوجبة المتعارف عليه.. ولذلك يستغرب بعضهم عندما يشاهدوننا نتناول طعاماً بعد التاسعة أو العاشرة مساء.. ولا عجب حينما تصطدم بأحدهم يمتنع عن مواعدتك في أمر ما لأنه لا يستطيع التخلف عن موعد وجبة الغداء أو العشاء، وهو ما يتكرر مع أبسط فئات المجتمع كالخادمة أو عامل السباكة أو محضر الملابس أو صاحب المتجر الذي يتعاطى معك إبان غدائه في وقت واحد.. ولا أعجب من ذلك إن قلت بأن هذا النمط له مصدر تعليمي من جهة عليا كتعاليم بوذا التي أكدتها تعاليم كونفوشيوس إلى ما هو أهم وهي الساعة البيولوجية في جسم الإنسان والتي لا تخطئ ولا تحيد عن بوصلتها وكل ما في اتباعها خير مؤكد لا ينفك عنه إلا عبيط يعيش حياة فوضوية تنهك جسده بأبجديات أقرتها القيم والحقائق العلمية.
يبدأ رجل التنين باللجوء إلى كل ما لا يمس الجسد من أدوية تربك تناغم وتفاعل أنسجة الجسد بدءاً من استعمال حركة مراكز الأعضاء والتأثير من أصابع اليد إلى باطن القدم بالتدليك والتأثير على العضو.. وإن اضطر إلى غير ذلك يقصد إلى محال (المساج) المنتشرة في المدينة وحتى القرية كمراكز ذات خبرة عميقة ومعرفة فيما يتعلق بالجسد وشبكة حواسها المرسومة في ذاكرة الأخصائي والمرسومة على الحائط كخرائط دلالية يثبتها العلم التجريبي لا تحيد عن الصواب.
ومن هنا بعد هذه الوسيلة يتجه إلى العلاج العشبي المتواجد في كل متجر كحاجة روتينية للجميع، وأيضاً متاحة في الصيدليات التي تنقسم - في الغالب - إلى صيدلية أعشاب، وصيدلية عقاقير مصنعة أصلاً من أعشاب طبيعية. ولذلك لا يلجأ إلى العقاقير المصنَّعة إلا للضرورة القصوى، وكحل أخير تضطره الحاجة الملحة يئن ألماً أو توصية من طبيب خبير.
هنا أتعجب من شعب لا يجهل أبجديات الضار والنافع ويستعمل الكحوليات بشراهة والمتواجدة في أبسط المتاجر، ويتناول ما حرمته الأديان السماوية وأجمع الأطباء على ضرره كلحم الخنزير وغيره من هوام الأرض والحشرات، ويظهر لنا أنه لا تستفزه المظاهر المقززة من القاذورات، وتنتشر من أجسامهم روائح عطنة حيث لا دين يستحثه على النظافة الدائمة كالوضوء والغسل إلا أن الواحد المتصف بذلك تجده ذا جسد سوي مستقيم الصحة ذا لياقة تامة.
والأغرب أننا في الأماكن العامة والحدائق المنتشرة في الأحياء يقابلنا كبار السن والعجائز الذين ناهزوا سن التسعين والمئة وهم ذوو بشرة مشدودة صافية ليس فيهم إلا تجاعيد الزمن الباهتة مع بريق وألق في عيونهم ينم عن التوقد الصحي والقدرة على الحركة التلقائية.. والمثير للدهشة أننا نشاهدهم في رحلات سياحية يصعدون الجبال ويركبون الأمواج وقد خارت قوانا الشبابية بحسد بالغ.. وهذا إذا ما قارناه نجد أن تأثير المحرمات لم يكن إلا هامشياً - على الأقل في الظاهر - مقارنة بالكسب الصحي الذي يمارسونه في عاداتهم اليومية التي أصبحت أشبه ما تكون بالعقائد الراسخة.
لكني لا أعجب إذا ما نظرنا إلى فارق الحركة التي تضطرهم حياتهم اليومية في المشي الطويل واستعمال الدراجة وركوب الباصات أو المترو الذي يسبقه من خمس إلى عشر دقائق مشياً.. إضافة إلى قلة الأكل والأكل المفيد. إضافة إلى عدم تكليف النفس والروح ما يرهقها من هموم مزعجة للعقل والقلب، وهذا يظهر في نمط معيشتهم البسيط والمكرس والخالي من التعقيد في مقال (زهد أم نمط معيشي).