لم نتعود أن يتواضع الأدب ولا حتى التاريخ ليتحدث عن بسطاء بيننا شكلو بدأبهم وجه الحياة كالعم (معيض) مثلاً الذي كان مثالاً جميلاً لإنسان القرية الممتلئ بالحياة والعبادة والطيب ومعاني الجمال حتى أنه يختصر حياة جيل فقد عاش ومات فلاحاً وبناءاً ومؤذناً بالمجان في مسجد قريتي وشاعراً ومنشداً ومرتبطاً بوطنه وحكامه بحب وقد كان ملء حياته جميل ينثر الشعر والحب والجمال وحب الحياة والدأب في الحياة حتى تتخيل أنها موجود في كل زوايا القرية وفي مختلف طرقاتها.
والعم (معيض) ليس إلا واحداً من الآلاف من أشباهه المضمخين بالجمال والحياة.. وحتى وأن ذكر الأدب أو التاريخ مثله فهو لا يأتي به وباقرانه البسطاء والملهمين إلا في سياقات مليئة بالشفقه أو معبأة بأفكار لم تدر بخلدهم حين يناقش على السنتهم قضايا فكرية وجدلية وفلسفية وسياسية كبرى كما فعل علي الشدوي مع (أحمد بن ليلى).
يحدث هذا - في الغالب - لسبب ظاهر وهو أن المهتم بالتاريخ والأدب والنخبة لدينا دوماً لديهم من الكبرياء ما يجعلهم ينأون بانفسهم عن التجول في حكايات القرى وبين أولئك البسطاء رغم أن حكاياتهم هي التي تحدد اليوم حجم المسافة بين الإنسان وهذه الأرض
خصوصاً في ظل هذا الظرف الراهن الذي نعيشه حيث تموج الأفكار والمفاهيم التي تهدد باقتلاعنا من الجذور حتى بدا لأجيالنا القادمة أن كل ما له علاقة بالقرية مظهر من مظاهر التخلف وأنه يتناقض مع معاني التحضر والمدنية والخطر المحدق يتوسع حتى أنه قد تصبح الهوية الوطنية على وجه العموم وليست فقط هوية القرية كمكان محل شك.
ويأتي الأدب كجسر يصل بين الأجيال وبين ماضيها بحيث يقدمه لهم في سياقات محترفة وواعية وقادرة على إبراز وجهه الحقيقي بكل ما يكتنزه من جمال، للحق فأني أجد في اشتغالات طاقم العمل الجميل (عيد وسعيد) البسيطة تعميقاً لما أود الحديث عنه حيث قدموا لنا حكايات القرى وهواجس إنسان الباحة ولهجته وطريقة حياته بأسلوب بسيط ومقنع وأن بهدف الكوميديا أو الاضحاك إلا أنه جهد عميق لامس بنا وجه المكان وغاص بنا في عوالم القرية وإنسانها وبسطائها.
هذه الاشتغالات تقودنا لحديث موسع عن دور المؤسسة والفرد في تخليد الوجه الجميل للقرية وتكريس هوية المكان عبر اشتغالاك واعية تجدها في المنجز السردي لعبدالعزيز المشري يرحمه الله وسطور جمعان الكرت السروية ونتاج علي الدميني ومؤلفات محمد زياد وطرف من انتاج علي الشدوي وحكاياته ومقالات علي الرباعي في عكاظ واشتغالات جمعية الثقافة والفنون عبر مشروع (الأدب الشفهي).
كل ماذكر يقدم لنا شيء من جمالية الماضي وجميع هذه الاشتغالات جيدة و من الممكن البناء عليها لتصبح القرية بكل مكوناتها محط اهتمام.
ومتى تمكنت أمة من جعل حكاياتها اللذيذة والملهمة والمتفردة وذات الدلالة العميقة مصدر الهام لاجيالها ومدماكا لبناء عال يوثق لوجه الحياة في قرانا التي غادرت كل أشكالها السالفة في رحلة ممتدة تذهب بنا نحو نسيان الجذور وقطع كل علاقاتنا معها.
حتى أننا نشعر بخطورة الأمر وضرورة التحرك باتجاه الجذور وتعزيز هويتنا المكانية واعتزازنا بها كملمح يميزنا ونفاخر به دون تردد أو خوف أو الشعور بالدونية والنقص.
ولعل ما يخطر ببالي هنا أقدمه كمقترح للإخوة في نادي الباحة الأدبي ومفاده تبني انتاج سلسلة أدبية تحت مسمى (أدب القرية) يوثق لحكايات القرية وكل ما له علاقة بها والتي تمثل في كينونتها لوحات شعبية تكاد تندثر أو تغيب ملامحها عن جيلنا الذي ياخذها الموج إلى ضفة نائية تهدد وجوده.
ولعلي هنا استنجد بما فعله الراحل (محمد صادق ذياب) يرحمه الله الذي وثق حكايات الحارة عبر سلسلة حكايات الحارة واقدم ما فعله من جهد مستنير ليكون نموذجاً يحتذى في هذا السياق.
فقد نجح عبر تلك السلسلة في رسم لوحة تعبيرية صادقة عن بيئة الحارة، ومن الوعي أن نقتفي أثره تجاه القرية التي تقف على تل من الحكايات المهملة.
- ناصر بن محمد العمري