ويسهر الخلق ">
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيَبتَسِمُ..!
الزمان: العاشرة صباح يوم الأحد الخامس من شهر رمضان من عام 1431هـ
المكان: المملكة العربية السعودية- الرياض- مشفى الملك فيصل التخصصي.
الشخصية: أمير شعراء الأدب السعودي.
الحدث: قشعريرة الفقد.. وكساح الأمل الذي نتوضأ به كلما حزبنا الفقد.. ومرارة الحقيقة التي تبتر كل قدم حنفاء..!
العزاء: (كبيرٌ بعدكَ الحزن.. ورحمة ربنا أكبر..!).. وفيوض دعوات: اللهم دثره فردوسك.. وأبلغه مأمنه.. وارض عنه.
في ذكرى رحيله (الخامسة) بعد (الفجيعة)، وقبل (الفوات).. وعقب (الممات).. ما زالت (الزفرات) تكبر وتتكاثر لراحل (لم يرحل)..!
لا يختلف خصمان بغى أحدهما على الآخر في شاعرية القُصيبي، فكان الدارسون والنقاد المتصدون لميدان نتاجه ونباته - ولما يزالوا- يتنازعون أمره بينهم.. وكل حزب بما لديه جدل وجذل.. غير أن المتفق فيه مختلف والمختلف فيه متفق.. وما بين البين إجماع لاستثاء شخصية قصيبية يسهر الخلق جراها ويبتسم بلا خصام..!
أحب شعره العجائز قبل الأبزاز.. والأمي العامي قبل المثقف الثقف.. وقبل النصف المُنصف.. وحتى بعد المنعطف الجائر الذي زار أفنانه.. آل إلى التفاف وشغف..!
ولد في الأحساء.. حيث خطواته الأولى.. وقضى فيها أمداء.. وخلف أنواء.. وترك الصدى فيها صوتًا.. والصمت ضجيجًا.. ترك بعضه فيها.. وأعرض عن بعض في غيرها.. وعرّف بعضًا على بعض.. ثم ولى شطره إلى المنامة يافعًا ثم إلى القاهرة شابًا.. ونال في جامعتها الحقوق.. وشد الرحال من العرب إلى الغرب.. من النقطة إلى الفاصلة.. إلى جنوب (كاليفورنيا) في (أمريكا).. ونال فيها (ماجستير) العلاقات الدولية.. في ظروف أخوية عصيبة بين نبيل له ونُبل منه.. ووجع تقاسماه أنصافًا وأضعافًا.. ثم يمم الجناح إلى الطموح الجموح (لندن)، حيث صافح مراميه هناك وحصد (الدكتوراه).. والتجربة وتبعاتها.. والغربة وأخواتها.. والأشياء وأشلاءها.. ثم آب إلى وطنه.. أخلص له وخلص فيه.. ولخص له وطنه سيرة تروى.. وذكرى تزيد الظمآن ماء وارتواء.. والريان جلاء ورّفاء.. والنعسان إفاقة ضياء ووضوء.. والمنتهى مبتدأ.. وسيظل القصيبي خبرًا مقدمًا ومبتدأ مؤخرًا في كل الأشياء..!
«ويا بلادًا! نذرت العمر زهرته! = لعزها! دمتِ..! إني حان إبحاري!»
الأحساء في شعره حاضرة والأوبة لأم النخيل تراوده.. ولكن قدرهما الفطام بعد الرضاع والتفجع بعد التشبع.. والفرقة بعد الاجتماع.. والانفصال بعد الاتصال.. تنداح الليف والسعف والهفوف في شعره حنينًا وأنينًا.. وأشواكًا وأشواقًا..وظلاً وحرورًا.. أخلص للأشياء فخلصت له الشّماء.. أقواله أفعال.. وتنظيره تطبيق..!
«هُفوفُ! لو ذقتِ شيئاً من مواجعهِ
وسّدتِهِ الصدرَ.. أو أسكنتِه الخُصَلا
طال الفراقُ.. وعذري ما أنوءُ بهِ
يا أمّ! طفلُكِ مكبولٌ بما حَمَلا
لا تسألي عن معاناةٍ تمزّقني
أنا اخترعتُ الظما.. والسُّهدَ.. والملَلا
هل تغفرينَ؟ وهل أمٌّ وما نثرتْ
على فتاها الحبَّ والقُبلا!
إلى أن يقول:
«أمَّ النخيل!... هبيني نخلةً ذَبُلتْ
هل ينبتُ النخلُ غضّاً بعد أن ذَبُلا؟!
يا أمُّ.. رُدّي على قلبي طفولَته
وأرجعي لي شباباً ناعماً أفِلا
وطهّري بمياهِ العينِ.. أوردتي
قد ينجلي الهمُّ عن صدري إذا غُسِلا»
وفي كل مرة أقرأ له يُزاحمني قوله:
«لا تتبعيني! دعيني! واقرئي كتبي
فبين أوراقها تلقاكِ أخباري!»
وقد صدق وأفلق..!
مهما اختلفنا حوله.. اختلافنا ثراء لا انتهاء.. وأمداء لا اكتفاء.. وغناء لا عناء.. وسماء حب لا اعتداء حرب..!
قرأت كثيرًا لشعراء الأدب السعودي فما وجدتُ كشاعرية غازي القصيبي.. شاعر يُخاطبك وكأنه يكتب عنك.. هو استثناء الأدب السعودي الحديث وأميره.. وأنواؤه.. وبوصلته شرقًا وغربًا.. شمالا وجنوبًا.. وبين جنبيه خليج يصيح أسًا ويسيح دماء بعدما كان (يتحدث) شعرًا ونثرًا.. وبين الافتراض والواقع مجاز وتجاوز يفضي لتجاور يُشجي وقد يُشفي..!
بينه وبين (المتنبي) عناق ووفاق.. وانعتاق وغرق.. وعلق وانفلاق.. التقاء وانتقاء.. همزه فيه يغدو وصلا ووصله يغدو قطعًا.. قصائدهما ولّادة بالتداول فيما بيننا.. بين قسمة سراء وقصمة ضراء.. ومفردة ثرّاء.. ومادة عراء..!
ألتقي معه في (المتنبي) بوصفه شاعره الأول بلا منازع.. وما عرّف أنه سيكون هو نفسه متنبي العرب في زمان مختلف.. وظرف مؤتلف.. ومتنبي الأدب السعودي الحديث شعرًا ونثرًا.. وهذا من عطف الخاص على العام.. اهتماما به..وهو عطف مقصود لذات الشعر ولجلالة بأسه الممتد..!
هو حفيد المتنبي ووريثه الأدبي.. شغل الناس ووسوس فيهم ألا أحد يجيء بعده.. وآمن معه من آمن..وارتاب من ارتاب.. والأيام بين الطرفين فاصلة وشاهدة.. يتقاطع مع ا لمتنبي في خصومه وحصونه.. قامت قيامته قبل وفاته.. وحين مات وآب إلى ربه.. وضعت الحرب أوزارها - وما انهزم - واستغفر كلٌّ لذنبه وبالعفو استطاب القلب وتاب..!
فتشوني بين المتنبي وغازي المتقصبي (المتنبي/ القصيبي).. ثم أعيدوا ترتيبي بينهما لعلي أجد على النار قبسًا فأصلي هدى ونورًا.. ثم يجيء بعدهما سِفر عرمرم من الشعراء الذين يتبعهم الهاوون الشغفون بالجمال من القول والنقل لا بالقبح من الأغلال والفلول.. ولسان حال كل واحد منهم: لديّ مزيد.. ورجع الصدى.. لا مزيد على جدي ووريثه..!
وتجدر الإشارة إلى أن عظمة الأدب تكمن إذا كان عفيفًا بلا ران.. ساميًا بلا أدران.. ينداح أشواطًا لا شططًا.. بلا هذا القيد يغدو الأدب بهيميًا بل أضل.. وتكريس الوقت له نكوس فاحترس..!
القصيبي حرفه يتقاطر شهدًا وسهدًا.. واستباكًا وشباكًا.. ودماء وماء.. وأشلاء وشّماء.. من أي الجهات أتيته ألفيته سيدًا.. في الإدارة حياة لأولي الأرباب.. وفي الشاعرية سلوى لأولي النهى.. وفي الرواية تورية.. وفي السفارة منارة.. وفي الوزارة إمامة.. وفي الفلسة والدبلوماسية ندارة.. وفي بقية الأشياء رمشاء.. فحقيقٌ أن يتعب من جاء بعده في كُلٍ.. تصنيفه صعب يتضاعف.. وسطوة رقمه انتصاب لا يرتد باللغوب.. وتحت سوأة الأرض هو إلا أن ذكره بعرض الأرض مدى واتساعًا.. وبحجم السماء صفاء وامتلاء بأثجاج تدر ولا تفتر..!
وحدهم الشعراء يموتون ولا يموتون.. المائز يكون ظلاً ممدودًا.. والهَازر يؤول إلى زبد.. ولا يقام له وزن في محافل النقد ولا التفافة..!
وحدهم الشعراء الحقيقيون تحيا أرواح قصائدهم بموتهم.. وتكبر دون أن يمسسها الهرم.. ويشتعل رأسها تداولًا لا يفتأ.. وتموت بموتهم مشاعر كثيرة.. ولا تموت أفياؤهم وأفلاؤهم هذا إذكانت في عموم ما يطلق عليه في عرف النقد أدبًا وفي عرف الأدب نقدًا ونصًا صالحاً للمارسات النقدية و للاختيارات الذوقية الآدمية..!
رحل القصيبي! كلا..!! ما زال بيننا.. العظيم يرحل جسدًا ويبقى روحًا وأثرًا.. يصل الثرى بالثريا في تناوب يُدهش الأحياء الأسوياء.. ويسوء الأحياء وهم في غيابة أمانيهم أموات..!
القصيبي شيء في أشياء.. وأشياء في شيء.. صغائر في كبائر.. وكبائر في صغائر.. شخصه في شخوص.. وشخوصه تمام شخصه..توارى وما توارى.. آب وما غاب.. رحل ولم يأفل.. حرفه حرب وحب.. وصداه عبء عذب وعذاب.. وقطافه التفاف.. والتفافه اغتراف.. واغترافه ترف محمود وإسراف مقتصد..!
«كالحلم جئتِ وكالحلم غبتِ.. وأصبحتُ أنفضُ منكِ اليدا
فما كانَ أغربه مُلتقى.. وما كان أقصره موعدا..!»
فاصلة بحجم ماخلفه فيّ وفيْ غيري:
القصيبي شخصية.. يسهر الخلق جرّاها ويبتسم بلا خصام.. فما بعد التراب إلا الصمت بلا ارتياب.. والدعوات المتواترات الطيبات.. إلى أن نتلقي هناك على آرائك لا لغوب ولا نصب.. فيها ولا لغو ولا أغلال.. إلا السلام والحب اللدود..!
فاصلة لا توجع الأموات ويتلظى بها الأحياء:
فاصلة بينها الولادة والموت.. والموت حياة أخرى.. بينها شهقة الابتداء والانتهاء.. بينه الفرح والوجع.. بينها المفاجأة والفجيعة.. بينها الدهشة والدهسة.. بينها السبعون والحزن.. بينها السبعون والتُهَن:
حين أقرأ (حزنك) أخبىء (فرحي) الذي يُشبه أضعاف (حزنك)..!
«يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفه = وأنتَ تعلمُ إعلاني وإسراري
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مَننت به = عليّ.. ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لُقياكَ! حُسنُ الظن يشفع لي = أيرتجى العفو إلا عند غفّارِ؟»
شهقة الفرح والوجع: 2/مارس/1940م - 15/أغسطس/2010م
ولّادة..!
- تهاني العيدي