د. زيد بن محمد الرماني ">
لا يكون النسيان تاماً أبداً, بل هو جزئي فقط (ما عدا الحالات المرضية). ومن النادر, في الواقع, أن يعجز المرء عن أن يتذكر أو لا يعرف ثانية أياً من العناصر المكونة لحدث ما يلزم حفظه (وقد يجب أيضاً التأكد من إمكان تقديرها كلها). ويمكن لطالب طُلب منه أن يستظهر قصيدة أن يكون غير قادر, بعد قليل, على حفظ أي بيت منها.
لكن بوسعه أن يتذكر, فيما بعد, الظروف التي حفظها فيها, والشخص الذي طلب منه حفظها, ومن أي ديوان أُخذت, إلخ...
وفي الواقع, نحن نقدر النسيان قياسياً على بعض أشكال تصرفنا ومظاهره فقط, التي انتقيناها بموجب بعض المعايير الشخصية أو الاجتماعية.
فنحن نستسلم استسلاماً سيئاً للنسيان. فهو يضيّق علينا الخناق: كالفشل في الامتحان, المضايقات الناتجة عن العلاقات بالآخرين, الزمن الضائع المهدور, الأموال المبددة, الخيبة المريرة, العزلة أحياناً, القلق من المستقبل.
فمن سنكون من غير تذكر ماضينا؟ إن الزمن الذي يمضي يهاجم ذاكرتنا التي تضعف فينتهي بها المطاف إلى مغادرتنا بلا استئذان:
- المرء يبسِّط بأن يتخلى دائماً عن عدد أكبر من التفاصيل, لدرجة أن الرسالة أو الأفكار التي يلتقطها تصبح بالغة البساطة بحيث لا تتطلب أقل جهد لتذكرها.
- يؤكد المرء على التفاصيل التي شدت انتباهه, ويضخمها أكثر فأكثر (الشجرة تصبح غيضة, ثم تصبح غابة) لأنه يحفظ ما يعجبه.
- يرتب المرء التفاصيل بطريقة تناسبنا ليجعل (القصة) أكثر منطقية, لأنه يعاني صعوبة كبيرة في حفظ ما يزعجنا.
- يدع المرء المعلومات المخزًّنة ويهجرها لأنه يتعب من استخدامها.
إنه نقص الجهد والدقة الحيوية, ونقص الثقة والأمل والعزم والشعور ونقص الذاكرة.
يشير نورمان إي. سبير, في كتابه عن تطور الذكريات, إلى أن مصادر النسيان الأكثر وضوحاً في بعض الظروف التجريبية هي:
- الزمن المنقضي بين اكتساب الذكرى واستعادتها.
- التداخل الحاصل بين اكتساب الذكرى الأصلي والاكتسابات اللاحقة.
- تغيير السياق, الخارجي أو الداخلي, الذي كان يتفوق لحظة اكتساب
الذكرى.
- تغييرات عادية في حياة الجهاز العضوي, كالشيخوخة.
- تغييرات غير عادية في فيسيولوجيا الجهاز العضوي, كحصول حادث
لجهاز العصبي المركزي.
- النسيان الموجّه أو المتعمد.
من منا لا يندهش من الذاكرة الرائعة لطفل في الثالثة من عمره. كان قادراً بعد بضع قراءات لكتاب ما على أن يقلب الصفحات ويتلو النص غيباً كأنه يقرأه فعلاً من الكتاب.
تحتاج ذاكرتنا لصيانة منتظمة لتبقى على كفاءتها, وحواسنا كلها رافدة لها, فكيف يمكن أن تأمل أن تتكلم لغة أجنبية بسهولة إن لم تكن تمارسها في الأيام كافة؟ كيف يعتقد أن الكتابة والقواعد هما فطريان, في حين أن هناك قدراً كبيراً من القواعد والأسس التي تحكمهما, يمكن اكتسابها وتعلمها بممارسة الكتابة ممارسة منتظمة.
حتى التلاميذ يجب عليهم صيانة ذاكرتهم. فلا يفلت أحد من قانون الصيانة القياسي. وهذا ما تؤكده الأضرار التي تُلحقها العطل الطويلة بالمعارف المكتسبة خلال العام الدراسي الفائت.
لذا، يرى كثيرمن الأهل أن حظوظ أطفالهم من الذاكرة غير متساوية, ويختلف نصيب كل منهم عن الآخر, فتسمعهم يرددون: (نصيب الولد الثاني من الذاكرة أكثر من البكر). وهذا التأكيد خاطئ. والأصح أن يلاحظ المرء أن نضوج الأهل يختلف بتقدمهم في السن, وتقل مشاغلهم, وربما ظهر لديهم مفهوم جديد للتربية, ذلك أن التجربة الأولى على الطفل الأول لها انعكاساتها وإسقاطاتها على الطفل الثاني بلا شك. وتتكون لدى الطفل الذاكرة التي يكسبه إياها ذووه, ليس عند الولادة, بل قبلها وفي أثنائها وبعدها.
فالحمل فترة متميزة يدرك الطفل العالم الخارجي في أثنائها عبر أمه. والمرأة الفضولية في بيئتها, التي تحتك بمختلف الأوساط والأشخاص, ترسل الكثير من الأصداء إلى الطفل, الذي سرعان ما يصبح قادراً على استقبال المعلومات وجمعها. وعندما يصبح الطفل على اتصال مباشر بالعالم, يمكن لذاكرته أن تتحرض لتعبر عن أقصى طاقتها.