أكثر من نصف مليار طائر تمر سنوياً بالمملكة ">
شاركت العديد من المنظمات ذات العلاقة بحماية الطيور والتنوع الأحيائي الاحتفال خلال اليوم العالمي للطيور المهاجرة هذا العام وذلك لزيادة الوعي بالمحافظة على الطيور المهاجرة ودورها في النظام البيئي، وقد بدأ أول احتفال بيوم هجرة الطيور على مستوى العالم عام 1993م بالولايات المتحدة الأمريكية، ولاقى برنامج الاحتفال اقبالاً كبيراً وحقق هدفه الرئيس وهو زيادة الوعي بحماية الطيور المهاجرة، هذا النجاح جعل مؤتمر الأطراف لاتفاقية حماية الطيور المائية المهاجرة بين إفريقيا وآيوروآسيا بِتَبَني مثل هذه المناسبة ليبدأ بعرضه على دول الأطراف عام 2005م، واعتمدت نهاية الأسبوع الثاني من شهر مايو من كل عام ليكون يوم الاحتفال بيوم هجرة الطيور، ليبدأ في العام التالي أول مناسبة على مستوى الثلاث قارات القديمة (آسيا أوروبا وإفريقيا) في عام 2006م، ويتم خلال كل احتفالية اختيار موضوع لهذه المناسبة، وفي هذا العام كان موضوع الطاقة والطيور المهاجرة هو موضوع حديث المهرجانات حول العالم ليكون شعارها «الطاقة....لنجعلها صديقة للطيور».
وبالرغم أن الاحتفال قد مر عليه أكثر من شهر لكن هذا الموضوع ما زال حديث قاعات وأروقة المنظمات الدولية المعنية بحماية التنوع الأحيائي بشكل عام والطيور بشكل خاص فقد صدرت عدد من القرارات من خلال الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الطيور والتنوع الأحيائي تتعلق بموضوع الطاقة والطيور وعليه أحببت أن أقدم لمحة عن أهمية هذا الموضوع في ظل التسارع بتطوير تقنيات الطاقة المتجددة، الذي هو مطلب أساسي لتطوير جميع مناشط الحياة في العصر الحديث مثل الصحة والتعليم والصناعة والزراعة والنقل وتنقية المياه، خاصة في هذا الوقت الذي يزداد فيه الطلب العالمي للطاقة والسعي الحثيث لدى الحكومات في تخفيض مستويات الكربون في الغلاف الجوي، والتحدي هنا كيف نجعل هذه الطاقة مستدامة وصديقة للبيئة؟ وهذا يأتي لو أخذنا بالاعتبار التنوع الأحيائي بشكل كامل والطيور المهاجرة جزء مهم من هذا التنوع، فلو علمنا أن هناك تناقصاً بالطيور المهاجرة بشكل ملفت للنظر خلال السنوات الأخيرة، فقد أشار تقرير لدراسة علمية قدمتها سكرتارية اتفاقية حماية الطيور المائية بين إفريقيا وايوروآسيا أن هناك تناقصاً كبيراً في أعداد الطيور المائية المهاجرة وصل إلى أكثر من 40%، كما أن الطيور الجوارح تناقصت في مناطق تكاثرها بنسبة وصلت إلى 50%.
وبالرغم من تعدد الأسباب المأدية لتدهور أعداد الطيور المهاجرة من اختفاء أو تأثر البيئات المهمة للطيور والصيد الجائر وغيرها إلا أن حوادث نفوق الطيور جراء التوسع بمشاريع الطاقة التي لا تأخذ بالاعتبار الطيور وبيئاتها والتنوع الأحيائي كان من المواضيع المهمة التي تصدرت أجندة الاتفاقيات الدولية التي تهتم بحماية الطيور والتنوع الأحيائي بالعالم، كاتفاقية المحافظة على الأنواع المهاجرة (Convention of the Migratory Species «CMS») وهي إحدى الاتفاقيات البيئية التي وقعتها المملكة، واتفاقية المحافظة على الطيور المائية المهاجرة بين إفريقيا وأيوروآسيا (African Eurasian Waterbirds Agreement «AEWA»)، بالإضافة لأهم الاتفاقيات العالمية التي وقعتها المملكة وهي اتفاقية التنوع الأحيائي (Convention on Biological Diversity «CBD»)، وهناك اتفاقيات أخرى صدرت عنها قرارات ملزمة تتعلق بموضوع الطاقة والطيور المهاجرة والتنوع الأحيائي وتحث الدول على الاهتمام لتقليل الأثر على الطيور المهاجرة والتنوع الأحيائي.
ولو ألقينا الضوء على موضوع الطاقة والطيور المهاجرة بالمملكة فسوف نجد أهمية وترابط كبير جدير باهتمام العاملين بمجال حماية الحياة الفطرية والجهات ذات العلاقة بمجال تطوير الطاقة، فبالنسبة للطيور المهاجرة فالمملكة تقع بين أهم المسارات للهجرة بين أيوروآسيا وإفريقيا كذلك يشكل منطقة الخليج للمملكة جزءاً مهماً في مسار وسط وجنوب آسيا، وإذا علمنا أن عدد الطيور التي تهاجر كل عام بالعالم تقدر بأكثر من 5.000.000.000 طائر سنوياً منها أكثر من مليار طائر تعبر بين أوروبا وإفريقيا عن طريق مسار البحر الأحمر فقط (GEF/UNDP 2005)، ويقدر عدد الطيور المهاجرة منها التي تمر بالمملكة حوالي أكثر من نصف مليار طائر سنوياً. كما أن برامج استخدام الطاقة البديلة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح قد بدأ العمل بها بالمملكة، وهذا يعني أن الحصول على طاقة مستدامة تأخذ بالحسبان تقليل الأثر على التنوع الأحيائي بشكل عام والطيور المهاجرة بشكل خاص يجب أخذه بالاعتبار، وعليه فإن هناك عدداً من الإجراءات التي يجب تطبيقها خلال مراحل تطوير إنتاج الطاقة.
ومن المهددات المسجلة بالمملكة للطيور المهاجرة هي تكهرب وتصادم الطيور بأعمدة الكهرباء الصادرة من محطات الطاقة فقد أشارت العديد من الدراسات أن الطيور النافقة نتيجة تصادمها مع أعمدة وأسلاك الكهرباء بالعالم يقدر بحوالي 4-50 مليون طائر سنوياً نتيجة تكهربها من أعمدة الكهرباء والاتصالات، كما أن هناك ما بين مئات الألوف إلى حوالي 175 مليون طائر يقتلوا سنوياً لأسباب لها علاقة بتوليد وتوزيع الطاقة مثل الاصطدام بها وصعقها الكهربائي بخطوط نقل الطاقة، أو تأثرها بالبنى التحتية والإنشاءات الخاصة بتوليد وتوزيع هذه الطاقة التي تعمل كحواجز مانعة للطيور متسببة بحوادث مميتة لها أو إلى نزوحها من أمكنتها، إضافة لأشكال طاقة مختلفة مثل الطاقة الهيدرولوجية (المائية) التي تقفد أو تدهور موائل الطيور، وهناك أضرار أخرى تسببها انتشار المحطات الطاقة الحيوية وطاقة أمواج المحيطات وطاقة الرياح والطاقة الشمسية وطاقة الحرارة الأرضية.
صحيح أن استخدام الطاقة المتجددة سوف تساهم إيجابيا في حماية البيئة من خلال تخفيف الآثار الناجمة عن التغير المناخي، ولكن نشر تقنيات إنتاج بعض أنواع الطاقة بدون تخطيط وتقييم بيئي صحيح ومناسب سيترتب عنه مخاطر جسيمة على أنواع الطيور المهاجرة والتنوع الأحيائي خاصة بالمناطق ذات البيئات الهشة مثل البيئات الصحراوية التي تشكل جزءاً كبيراً من بيئات المملكة، وعليه فقدت دأبت العديد من المنظمات المهتمة بالبيئة بشكل عام والطيور بشكل خاص بوضع إرشادات للتعامل مع جميع أشكال الطاقة المتجددة والتي تساهم في تقليل أو إزالة التأثير على الطيور المهاجرة. فمثلاً يمكن تفادي تصادم وتكهرب الطيور بخطوط الضغط العالي بطرق بسيطة جداً كعمل تعديلات على الأذرعة بالأعمدة كوضع درع بلاستيكي يعمل حاجزاً من توصيل الكهرباء، أو عمل منصة فوق توصيلات الأسلاك على الأعمدة لحماية الأعشاش، كذلك وضع كرات وحلزونيات بلاستيكية على الأسلاك، وهذا الموضوع له أهمية كبرى في جميع برامج الطاقة خاصة أن أسلاك الكهرباء تصدر من جميع محطات الطاقة البديلة، كما أن هذه المشكلة -تصادم وتكهرب الطيور بخطوط الكهرباء- تعتبر من أهم المؤثرات التي تواجه الطيور المهاجرة عبر المملكة والتي تحصد سنوياً أعداداً من الطيور منها بالمملكة حيث سجل بحث علمي عن تأثر أكثر من 15 نوعاً من الطيور المهاجرة بخطوط الضغط العالي بالمملكة من أهمها اللقلق الأبيض الذي نفق منه في منطقة واحدة على مسار هجرتها بالمملكة 254 طائراً في يوم واحد، كذلك طائر السمان الذي يسجل سنوياً نفوق أعداد كبيرة منها بسبب تصادمها بخطوط الضغط العالي بالإضافة للصيد الجائر عليها.
وبالنسبة لتأثيرات استخدام الطاقة الشمسية فمن خلال الدراسات في دول أخرى لوحظ تأثير تقنيتين مستخدمة في توليد الطاقة الشمسية على الطيور المهاجرة والتنوع الأحيائي وهما الفوتوفولتك المركزة أو الإضاءة المركزة (Photovoltaic/Concentrated Photovoltaic «PV»)، وهي التي تحول طاقة الشمس مباشرة إلى كهرباء وتنتقلها مباشرة عبر شبكة الاتصال، والثانية تعرف بالطاقة الشمسية المركزة (Concentrated Solar Power «CSP»)، وهي التي تستخدم المرايا لتركيز أشعة الشمس ونظام القائم على السائل لدفع مولدات البخار التي توفر الكهرباء إلى الشبكة، وعليه فإنه من الضروري خلال الدراسات للتقييم البيئي متابعة طريقة استخدام المياه لأغراض التنظيف أو لتبريد المولدات أو توليد البخار ليكون بشكل مستدام فلا تزيد كميته ويؤثر على المياه الجوفية، كذلك حتى لا تفقد الطيور موائلها إذا المياه المستخدمة مياه جارية أو من خلال إزالة أو تغير البيئة التي كانت فيها الطيور لتصبح إما جاذبة للطيور فتؤثر أو تتأثر بهذه المحطات لتغير البيئات أو أيضا التعرض لخطر التصادم مع البنية التحتية المرتبطة بها هذه المحطات بما في ذلك الأسوار والأبراج خطوط الكهرباء المرتبطة بهذه المحطات، كما أن التلوث الناتج من الأنشطة خلال فترة التشييد والصيانة، وكذلك المواد الكيميائية التي يمكن استخدامها في توليد الطاقة الشمسية المركزة يمكن أن يؤدي إلى إطلاق الملوثات في البيئة بشكل مستمر. وعليه فإنه من المهم في المراحل الأولى من المشروع عمل تقييم بيئي كامل يحدد فيها التأثيرات المحتملة على الطيور والتنوع الأحيائي والتأكيد على مشاركة خبرات محلية في مجال الطيور حيث إن لديها الخبرة والمعرفة بأنواع الطيور وسلوكياتها والأنواع المهددة بالانقراض بالمملكة، مع وضع برنامج عمل لمتابعة المشروع للتأكد من عدم وجود تأثيرات متوقعة أو لتخفيف الأثر الناتج من استخدام الطاقة الشمسية. أما فيما يتعلق بطاقة الرياح فإن وضع التوربينات في مواقع مسارات الهجرة للطيور بشكل غير لائق سوف يكون لها تأثير سلبي على الطيور فتشير تقرير علمي نشر في مجلة حماية الحياة الفطرية بالولايات المتحدة الأمريكية أن هناك من 600.000 طائر يموت سنوياً من جراء تصادمها مع المراوح العملاقة منها 80.000 من الطيور الجوارح. ومن التأثيرات الأخرى التي يمكن أن تؤثر على الطيور هو تأثر موائلها خاصة أن هذه التربينات سوف تأخذساحة لا بأس بها في مسار هجرة هذه الطيور، ومن المناطق المهمة لهجرة الطيور التي تعد مساراً مهماً لها هو مسار البحر الأحمر والتي يعد أحد أهم المناطق أيضاً لتطوير برنامج طاقة الرياح بالمنطقة، وعلى أية حال فإن مشاريع الطاقة الشمسية ومراوح الرياح ما زالت في بداية عهدها خاصة بالمملكة وعليه فإن معرفة أضرار البيئة من خلال الاستفادة مما أظهرته الدراسات في عدد من الدول خاصة التي زاد فيها استخدام هذا النوع من الطاقة والتي تشير إلى تأثر أنواع من الطيور وموائلها والتنوع الأحيائي يجعل من المهم التعامل مع هذه القضية بشكل جدي وحازم خاصة مع الشركات المكلفة بمشاريع الإنشاءات والتشغيل والمتابعة وكذلك الشركات التي تقوم بدراسات التقييم البيئي، وهناك العديد من الإجراءات الوقائية التي لا يتسع الوقت لسردها ومعمول بها في كثير من دول العالم يمكن تطبيقها لإزالة أو تقليل الآثار البيئة السلبية في هذه المشاريع للمحافظة على البيئة والتنوع الأحيائي بشكل عام والطيور المهاجرة بشكل خاص.
وهذا الموضوع والحمدلله لا يخفى على قيادتنا الحكيمة فقد اهتمت حكومة خادم الحرمين الشرفين بهذا الموضوع فمع برامجها لتطوير الطاقة البديلة كعنصر أساسي في التنمية المستدامة فقد وضعت أنظمة لحماية الطيور المهاجرة من خلال وجودها في اللجنة السداسية التي تلعب فيها عدد من الجهات الحكومية كالهيئة السعودية للحياة الفطرية ورئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة وزارة الزراعة وزارة البلدية والقروية دوراً كبيراً فيها للتأكد من إزالة أو تقليل الأثر على البيئة والحياة الفطرية في المشاريع ذات العلاقة، ويجدر الإشارة بأن الهيئة السعودية للحياة الفطرية في صدد إعداد ورشة عمل عن علاقة الطاقة والطيور المهاجرة وذلك للتعريف بالمشكلة بمشاركة الجهات ذات العلاقة بالطاقة والتنمية المستدامة بالمملكة.
وفي الختام أدعو الله عز وجل أن يحفظ بلادنا وقادتنا ويرحم شهداءنا وينصر جنودنا على أعداء الأمه ويحمي بيئتنا من العابثين لتكون كما هي أمناً ورخاءً لشعبها الوفي... وأرض السلام لمن عليها من الأمم وأخص منهم ضيوفنا من أمة الطيور المهاجرة التي تزورنا كل عام خلال رحلتها بين مناطق تعشيشها ومناطقها الشتوية لترينا إحدى معجزات الخالق التي سخرها لنا وأستأمننا عليها لنحافظ عليها ونسلمها للأجيال القادمة من أجل بيئة وتنمية مستدامة.
د. محمد بن يسلم شبراق - عميد شؤون المكتبات بجامعة الطائف، ومستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية