لم يكن ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال إلا امتداداً لمدرسة الديوان بقيادة عباس العقاد الذي صاغ مقدمة الكتاب سنة 1923م، وهي فكرة صاحبت بدايات النهضة العربية في القرن العشرين - كما يسمونها - تمخَّض عنها معارك أدبية فردية وصراعات مدارس شعرية، والكتاب من جزأين من القطع الصغير وهو عبارة عن مقالات كتبها النعيمي في نقد الشعر العربي والشعراء والنقّاد والكتّاب أيضاً ولكن كان هدفه الأول الشعر المقفّى الموزون،
ولم يكن يهدف النظم والتزام الشاعر بالوزن والقافية فحسب، وإنما يقصد خلاصة القصيدة وما تحمله من معنى ولفظ ومن وضوح وغموض ورتابة الشاعر التقليدية على نهج الشعراء الأوائل وكسر الروتين المعتاد بوضع حرية مطلقة ليس لها حدود تمثّل نفسية الشاعر وعقليته الحقيقية وعدم التصنّع وكأنهم جميعهم كذلك! ولذلك حاول أن ينتقي شعراء معينين! وفكره الخالص أن يكون الناس كلهم شعراء بسهولة ويسر مهما كان شعورهم ما دامت بوصلة العاطفة تتحرك في كل الاتجاهات وألا تكون القصيدة كالفرس الجامح لا يمتطيه إلا الفارس المتمرس فقط!! والرواية أيضاً بحوادثها وحبكتها وقصتها بأن لا تكون مبتذلة تقليدية ساقطة من متاع النثر وهذا صحيح! ولذلك تجد في قصص نعيمة الواقعية المجردة من الخيال! والعفوية في اللغة والبساطة في الشخصيات وفي الأحداث كمجموعته القصصية كان ما كان وهي تُعتبر أول مجموعة قصصية له! فسقوط الحواجز في كل مناحي الأدب والشعر خاصة مطلب تلح عليه المرحلة الراهنة مجاراة للنهضة الحضارية الغربية التي تُعتبر المثال الرائع لكل عمل أدبي وشعري! كما يراها شعراء وكتّاب المهجر!.. وأن يكون الإنسان هو المحور الرئيس لكل الفضائل والمشاعر والأحاسيس! وليس امتداداً لموضوعات طرقها الشعراء والكتّاب من قبل! ولا شك أن ميخائيل يتحدث بلهجة شعراء المهجر وهو واحد منهم وتأثرهم البالغ بالأدب الغربي فحتى في كتابه البيادر عندما جعل الشرق بصيراً كان الغرب مبصراً متفوقاً في ذلك! وإعجابهم بالأدب الغربي بشكل عام والشعر بشكل خاص والذي لا يقيّد الشاعر بقيود صعبة مختزلة من قرون في كتب التراث يحذو حذوها الشاعر بعيداً عن العاطفة الحية المتجددة! هكذا يرون!! والذي أسبغ عليهم روح التقليد في ذلك سواء في الأفكار أو في نمط القصيدة عامة وكذلك الديوان أيضاً الذين كانوا يخوضون معركة مشابهة لذلك مع شعراء القصيدة العربية التقليدية ومدرسة الإحياء فوصلوا مع شعراء كبار حد الإسفاف والتهكم كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم بل وصل بهم الحال أن أخرجوهم من زمرة الشعراء المعدودين وتجد ذلك في مقدمة الغربال وكذلك الديوان ومدى التشابه الكبير في الهدف والطريقة والغاية ولم يسلم شوقي حتى من نعيمة والذي أراد أن يجامل عباس العقاد صاحب مقدمته فكان في الميعاد وأمطر شوقي من رصاص السخرية والتهكم ما أثلج به صدر العقاد والمازني! والحقيقة أن القفز على الشعر العربي عامة ليس وليد مدرسة الديون والمهجر وإنما تاريخه قديم جداً مع بداية العصر العباسي باختلاف الحياة السياسية وظهور المد الشعوبي إلى العلن بعد أن كان مختفياً طيلة عهد بني أمية وهو الذي أعطى فرصة لكثير من الشعراء بأن ينقدوا نمط القصيدة المعتاد كالمطلع الطللي والبكاء والتشبيهات التقليدية التي تعوّد الشعراء على ذكرها في جلِّ قصائدهم وفي مختلف الأغراض الشعرية والتي أصبحت ركناً أساسياً سئم من تردادها الشعراء أنفسهم حتى قال أبونواس في ذلك ساخراً:
عاج الشقيّ على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلدِ
يبكي عل طلل الماضين من أسد
لادرَ درك قل لي من بنو أسدِ
ومع ذلك لم يكن هناك من غرّد خارج السرب حتى أبو نواس نفسه ظل حبيس القصيدة بنمطها المعتاد ولم يبدع هو وغيره سوى التجديد في المعاني لأنّ كل جديد يكون مطرحاً ما لم يتفوق على من سبقه بقبول الناس بمختلف فئاتهم قبولاً حسناً يطير في الآفاق ولم تكن المجتمعات قد تقبّلت ذلك بعد! فحتى الموشحات والتشطيرات والتخميسات وغيرها لم تخرج عن نطاق القصيدة سوى في الطريقة مع التزامها بالوزن والقافية، فالنفس العربية جُبلت وطربت على النمط القديم وإن كانت الأفكار تغيرت كثيراً!! ولعل ميخائيل نعيمة لم يكن يحاول إقصاء اللغة كما صاحب ذلك الوقت بعض الأصوات التي تطالب بالعامية وإدراجها في الآداب وقد يظن بعضهم ذلك! وإنما كانت فكرته التحرر من عبودية الوزن والقافية وأيضاً من اللفظ والمعنى وتحريك المياه الراكدة في بحر القصيدة والقصة بمشتقاتهما! فهو يرى في ذلك تقليداً أعمى لا يقدم جديداً مفعماً بالشعور والأحاسيس الصادقة وإنما هو تكلف بارد يُرجع الشعر لأيام الكتاتيب وزوايا الجوامع القديمة! وكأنك لم تحرك قدميك للأمام إن لم يكونا متأخرتين للوراء! وقد صب جام غضبه على الأوزان الشعرية وزحافاتها وعللها وأنها كانت كارثة على الشعر ومقيّدة للإبداع حتى أصبحت صناعة فقط! وهذا إجحاف غير منصف لأنّ تقاسيم الأوزان هو إيقاع متوازن ونغم فخم يصاحبه جِرس قوي بحيث تتواصل النغمات دون إخلال فوضوي بين الكلمات والحروف تكون فيه الأبيات كلاً واحداً تكملها القافية ببراعة وهذا ما لا يتأتى لشعرٍ آخر على أرض المعمورة كخصوصيّة نادرة وما آلاف القصائد والأبيات الشعرية الرائعة الجميلة المحركة للإحساس والشعور والمفعمة بالحماس والنديّة التي تخاطب القلب والعقل إلا وكانت عن طريق الوزن والقافية وما طرب الخاصة والعامة وأنشدوا وتناشدوا وحاكموا واحتكموا إلا بالوزن والقافية وما تفرّد الشعر العربي وتميّز عن غيره وأصبح العلامة الفارقة والحضور اللافت في كل محفل إلا بالوزن والقافية مروراً بالزحافات والعلل بأشكالها وألوانها ولعلّ نعيمة حين أخفق في تبني الأدب الاشتراكي الشرقي لأنه لا يطلق العنان للحرية لأسبابه المعروفة المصاحبة للسياسة الاشتراكية! كان الأدب الغربي مطابقاً لفكرة ووجهة نظر الرابطة القلمية ولذلك تجده لا ينفك يستشهد كثيراً بمكس مولر وبأقوال لوتفلو وبرنه وأبن وغيرهما محاكاة وإعجاباً بالأدب الغربي الذي أيضاً للغلبة الاستعمارية على الشرق كانها دور في تفوق أدبها وإخفاق وتدهور الشرق! - كما يعتقد - وعلى واقعية الغربال نسبياً في بعض قضايا الأدب والشعر إلا أن الغربال لم يغربل الشعر كما يريد ميخائيل نعيمة ورفاقه فيما بعد وظل كما كان لأنه علم قوم تعارفوا عليه وعشقوه وتوراثوا بناءه وأصوله الذي أسبغ عليه حلية الجمال وأسبقية الكمال وإنما تغيره وتجدده يكون في معانيه وألفاظه وخصائصه وهذا التطور المنشود وأتوقع أن نعيمة بعد أن غربل لم يُنخل كما يجب.
- زياد بن حمد السبيت