الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فحين يقلب المتأمل النظر في سير نماذج من العلماء والفقهاء في هذا العصر من الذين أقبلوا على الله في سيرهم من الذين لا يريدون علواً في الأرض، بل يقصدون رضاه سبحانه والرفعة في الدار الآخرة، وكيف أطاقت نفوسهم أن يعيشوا بين الناس مع زحمة الأحداث والفتن ومع التغيرات غير السارة في هذا التحول نحو المدنية المادية التي قد يقدم فيها بعض أهلها الرغبات والمشتهيات على مسالك الصلاح والتزام المبادئ والقيم، عندما يرقب المتأمل ذلك كله ثم ينظر في هؤلاء الفقهاء والعلماء المتواضعين، الخامل ذكرهم، الطاهر مسلكهم، كيف توازنوا في عيشهم وكيف جاهدوا في الله أنفسهم حتى قرأ المتأمل في سلوكهم منهج الرعيل الأول من سلف هذه الأمة ليكونوا حجة لله على خلقه، فهم يسيرون في عيشهم وقد جعلوا الدنيا مطية للآخرة، الحق عندهم ثابت واضح لا يقبل التلون، والراجح والمرجوح عندهم وفق ميزان ومعيار علمي شرعي تتحقق معه المصالح جلباً وتكثيراً، وتجتنب فيه المفاسد درءاً وتقليلاً، وهذا يظهر ويتجلى من خلال الدين الصحيح، والعلم النقي، والعقل الراجح.
وهؤلاء العلماء القدوات النماذج لا يكادون يعرفون وتنكشف أحوالهم للناس إلا عندما ينزل بأحدهم نازل الموت، ويحل أجله المسمى، حينئذ تتلذذ الأفواه عاطر ذكرهم وتتبادل بالثناء حسن مسيرهم وتسجل حين ذلك شهادة شهداء الله في أرضه على عباده، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه-، قال: مُرّ بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (وجبت وجبت وجبت)، ومر بجنازة فأثني عليها شراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (وجبت وجبت وجبت)، قال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خيراً، فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شراً، فقلت: وجبت وجبت وجبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض). رواه مسلم.
قال الإمام النووي: «وللعلماء في معنى الثناء قولان:
أحدهما: أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، فكان ثناؤهم مطابقاً لأفعاله، فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك، فليس هو مراداً بالحديث.
القول الثاني: وهو الصحيح المختار أنه على عمومه وإطلاقه، وأن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه، كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تحتم عليه العقوبة، بل هو تحت المشيئة، فإذا ألهم الله عز وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء. وقوله صلى الله عليه وسلم: وجبت وأنتم شهداء الله. ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة» أ هـ
وقد نطقت الألسنة وسالت الأقلام في الثناء على الفقيه العالم العابد الزاهد الشيخ/ عودة بن عبد الله السعوي، وقد توفي في يوم الجمعة الموافق 25/ من شهر شعبان/ لعام 1436 هـ، وصلي عليه في مدينة بريدة منطقة القصيم. وهذا العالم الجليل عرفته أيام عمل سماحة الوالد عبد الله بن حميد - رحمه الله - مقيماً في بريدة قاضياً ومعلماً، وكان الشيخ عودة من الطبقة الأولى من طلاب سماحة الوالد - رحمه الله.
وآل السعوي الذي ينتمي اليهم الشيخ أسرة كبيرة في القصيم، وأصل اشتقاق الاسم - كما يقول معالي الشيخ محمد العبودي في كتابه الممتع النادر معجم أسر بريده - من السعي وهو التنقل بين البلدان على جهة السفارة ونقل الرسائل ونحو ذلك، ثم قال الشيخ العبودي ولا أدري هل اسمهم من ذلك أم من غيره.
واشتهرت هذه الأسرة الكريمة بالصلاح والزهد والعلم وطلبه ومحبة أهله مع صدق وتواضع وحسن تودد، وحياء غالب، وثقة الناس وبخاصة في كتابة الوثائق والوصايا والمبايعات والأوقاف وحل مشكلاتهم والإصلاح بينهم وتقرير الحقوق والأضرار وتقديرها وتثمين ما يحتاج إلى تثمين، وهم محل الثقة لدى ولاة الأمور والقضاة فيما يوثقونه ويقررونه لأمانتهم وديانتهم وحسن خبرتهم، وكل أعمالهم هذه يقومون بها احتساباً لا يأخذون على ذلك من الناس أجراً.
فهم محمودو السيرة مأمونو السريرة، مقبولو المواعظ وذلك لما منح الله لهم من القبول والمحبة والتوفيق والتسديد.
ومن مقولاتهم المأثورة: «ابدأ الناس قبل أن يبدأوك» ومرادهم «إذا كنت تريد وعظ الناس في المجامع العامة فبادر بالموعظة قبل أن تختلف رؤوسهم ويأخذون في تداول الكلام فلا تستطيع اجتذابهم للموعظة والإنصات لها. ثم إذا فرغت من الموعظة دع الناس يتحدثون بما يريدون من أحاديثهم المعتادة».
وقد تولى القضاء من هذه الأسرة المباركة على مدى قرنين من الزمان تسعة قضاة، وتولى الإمامة والخطابة في الجمع والأعياد والاستسقاء والكسوف ثمانون إماماً وخطيباً، كما تولى الأذان ثلاثون مؤذناً، وقد أحصاها معالي الشيخ محمد العبودي بتواريخها وأماكنها.
والشيخ عودة بن عبد الله السعوي ينحدر من هذه الأسرة المباركة، ولد في عام 1345هـ، وتربى في كنف والده الشيخ عبدالله الفقيه القاضي الواعظ.
والشيخ عبدالله بن عودة السعوي (1308 - 1379 هـ) تولى مناصب عدة قضائية وإرشادية في عهد الملك عبدالعزيز والملك سعود -رحمهما الله- في جيزان والمنطقة الشرقية.
وهو من الذين اختارهم ورشحهم الشيخ عمر بن محمد بن سليم قاضي القصيم للقضاء والإرشاد في منطقة جيزان بناء على طلب الملك عبدالعزيز - رحمة الله على الجميع.
وقد عرف الشيخ عبدالله - رحمه الله - بجده وحزمه وعزمخ مع صلاح وديانة وسكينة ووقار وسمت حسن ونزاهة مع وقوف في الحق، وقد أدركته شيخاً كبيراً وكان الوالد - رحمه الله - يحبه ويقربه ويأنس بحديثه والجلوس إليه.
وأخو الشيخ عودة هو معالي الشيخ محمد بن عبدالله بن عودة السعوي تقلب في وظائف عدة قضائية وإدارية كبرى، منها رئاسة المحكمة الكبرى في الرياض ونيابة رئاسة المحكمة الكبرى في الدمام ووكالة وزارة العدل وأمانة هيئة كبار العلماء. وكان آخر أعماله رئاسة تعليم البنات في المملكة، وقد نهض بكل ما وكل إليه بقوة وأمانة.
ومعالي الشيخ محمد كريم الخلق ذو مروءة وأدب، وكان من أخص جلساء الوالد - رحمه الله - فالوالد يأنس بمجالسه كثيراً ويروق له حديثه، فهو أديب أريب إخباري يحفظ نوادر القصص وعيون الشعر، لا يتوانى في تقديم ما يستطيع تقديمه من خدمة وبخاصة لمحبيه وذوي قرابته.
وأما الشيخ عودة وهو سليل هذه الأسرة فقد حفظ القرآن حفظاً متقناً، وقد قدر الله له أن عاش في عصر زاهر بأهل العلم، منهم العالم الفقيه عمر بن محمد بن سليم، وسماحة الوالد عبد الله بن حميد، والشيخ العالم صالح بن أحمد الخريصي - رحمهم الله جميعاً.
وقد لازم مجالس الوالد وأخذ عنه الفقه والتوحيد ودرس عليه النحو والفرائض، وكان من عقلاء الطلاب وأكثرهم فقهاً، وكان الوالد يرى فيه الفقيه المتقن الذي يتسم بالعقل والعلم والحنكة؛ لذا حرص الوالد على أن يخلفه الشيخ عودة مع مجموعة من نجباء الطلاب في التدريس بعد انتقاله إلى مكة المكرمة، ولكن الشيخ عودة لم يرغب ذلك، تواضعاً وخشية من تعلق قلبه بحب المنصب والظهور والشهرة.
ومما أذكره في هذا الصدد أن الوالد - رحمه الله - حينما عزم على الانتقال إلى مكة المكرمة عام 1384هـ جمع طلابه وتلاميذه ولا سيما النجباء منهم وممن أذكره منهم الشيخ عودة والشيخ ناصر الهويمل - رحمهما الله - والشيخ صالح المقيطيب - حفظه الله - وآخرين وتبادلوا عبارات التوديع وصعوبة الفراق وعظم ما سوف يفتقدونه وبخاصة من الاجتماع على طلب العلم وعقد حلقاته في المسجد الجامع وفي المكتبة العلمية وفي منزل الوالد، وقد حرص الوالد - رحمه الله - على أن يكلف من يقوم بمواصلة عقد الحلقات للطلاب واستمرار هذا العطاء العلمي المميز، ولا سيما من هؤلاء النجباء، وشدد في طلب ذلك منهم وخص بالحض العالمين الجليلين الشيخ عودة والشيخ ناصر الهويمل - رحمهما الله - وأكثر القول عليهما وإلزامهما ولكنهما لم يستجيبا، ومما قال لهم إنكم إن لم تستمروا في اجتماعكم وجمع الطلاب من حولكم سوف تتفرقون وقد لا تجتمعون، ولكن الورع وهيبة التدريس غلبت عليهم، وأظن أنهم بعد فترة تأسفوا على عدم الاستجابة لأنهم تفرقوا وصعب اجتماعهم وإن كانوا متواصلين محبة ومذاكرات خاصة، ولكن عقد الحلقات وجمع الطلاب واستمرار العطاء العلمي هو الذي كان مفقوداً، وإن لم تخني الذاكرة فكان من أكثرهم ندماً هو الشيخ ناصر الهويمل -رحمه الله- ليس لشخصه وإنما لما افتقدوه من استمرار هذه الحلقات بعطائها العلمي وتخريجها للنجباء من الطلاب. وإنني في هذا الصدد أرجو من العالم الفاضل النحوي الأريب الشيخ صالح المقيطيب -حفظه الله- وأمد في عمره أن يدون ما يعرفه في ذلك، فإني إعلم أن عنده في ذلك شيئاً كثيراً يدفعه حبه وحنينه لذلك العهد الجميل.
ومع كل هذه الذكريات والأمنيات فقد بقي لفضيلة الشيخ عودة -رحمه الله- ما عرف به من العلم وحسن السمت في لفظه ولحظه، صموتا عفيف اللسان وكان ذلك يظهر لمن تابعه في سيرته ومسيرته وحسن تعبده صلاة وذكراً واستغفاراً ومجالسة.
وقد اهتم - رحمه الله - بمدارسة العلم وتدريسه في موضعين الأول: المسجد فكان يجلس بعد صلاة الفجر في مصلاه إلى شروق الشمس يقصده طلاب العلم زرافات ووحداناً يقرؤون عليه في الفقه والفرائض والنحو. والمجلس الثاني: دكانه في السوق فقد كان مجمعاً ومنتدى لطلاب العلم والفقهاء وكان يدارسهم الفقه والنحو والفرائض وغيرها من العلوم، وكانت تعقد بعض المباحث العلمية والحوارات الفقهية ومداولات أهل العلم ومقولاتهم ونقولاتهم في ذلك المكان حتى يظن الظان أن المكان مكان تدريس لا محل بيع وشراء.
وكأنه يتمثل ما قاله ابن حزم - رحمه الله: «لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به، إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس، لكان ذلك أعظم داع إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره؟!»
وقد اختار الشيخ عودة البيع والشراء سبيلاً لتحصيل الرزق رغم أنه قد عرض عليه من المناصب في ذلك الحين ما تشرئب إليه أعناق أبناء وقته كتولي القضاء وكتابة العدل والتعليم وغيرها من الوظائف، لكن محبته للتفرغ للعلم والعبادة منعه أن يزاحمه أي عمل فيشغله عن العلم والعبادة.
تميز -رحمه الله- ببعد نظره وحنكته، فقد كان مقصداً للاستشارة وإصلاح ذات البين والفتوى، وكتابة الوصايا وتوثيق العقود والحقوق.
ومن هنا توثقت حبال المحبة بينه وبين الناس، فهو يحب الجميع ويحبه الجميع، وكان إذا خرج من بيته متجهاً للسوق يأنس من يقابله بالسلام عليه والترحيب به، لما عرف عنه من حسن التودد وحب الناس ونفعهم وما يتسم به من خلق وأدب وعفة ونزاهة. وقد أخرج الطبراني في الكبير وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل). والحديث حسنه الألباني - رحمه الله.
هذا بعض ما حفظ من سيرة هذا العالم الورع الزاهد العف التقي النقي أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله، وقد خلف ذرية صالحة فيهم طلبة علم مع اتصافهم بما تتصف به أسرتهم من الديانة والأدب وعفة اللسان، منهم الدكتور محمد وهو عضو هيئة تدريس في جامعة الإمام في الرياض، وأحمد وقد عمل في الجهاز الدبلوماسي في وزارة الخارجية وقد قتل غيلة -رحمه الله- في عام 1418هـ وقد كان لقتله أثر عظيم في النفوس، فتلقى والده وعمه فيه التعازي من الملك وعدد من الأمراء والوزراء والوجهاء - رحمه الله رحمة واسعة.
وعبدالرحمن وكيل محافظة البكيرية، وعبدالله معلم في التعليم العام، فرحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته وأصلح عقبه وذريته وعوض المسلمين خيراً وجمعنا ووالدينا ومشايخنا في جنات النعيم أنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- بقلم الشيخ صالح بن حميد