د. محمد أحمد الجوير ">
أحياناً، تود لو عاد بك الزمن؛ لتعوّض ما فاتك من فرص، تراها ثمينة بالمفهوم العلمي الدقيق، خاصة إذا ما ارتبطت بالعلم والثقافة والأدب، وبالفكر عموماً. والزمن الذي أقصده ليس زمن العمر، بقدر ما هو زمن العطاء الفكري الجميل الكامن عند البعض، وتشعر به من خلال فتراتك العمرية. مجتمعنا يزخر بقامات فكرية شامخة ورائدة، عطاءاتها وحضورها في المشاهد الفكرية والثقافية والإعلامية تشهد لها بالصور والأرقام، حتى باتت شخصيات رائدة فاعلة ومؤثرة في مجتمعها؛ تجد التقدير والاحترام لها من المتذوقين لفنها. كنا في بدايات التسعينيات الهجرية مولعين بالتلفزيون، كخيار وحيد آنذاك، ترافقه شقيقته الإذاعة، وكان في ذيْك الفترة اسم لامع، يتردد ذكره في الصحف المحلية، لم يزل محفوراً في ذاكرتي. كانت صورة الأستاذ عبدالرحمن الشبيلي آنذاك، والدكتور الآن، تتصدر صفحات الصحف؛ حتى رسخت في أذهان الجميع. تخرّجت من الثانوية المهنية (المعهد الملكي الفني بالرياض)، وعملت أشهراً قليلة في وزارة الدفاع عام 1396هـ، وسرعان ما انتقلت لوزارة الإعلام مع بدايات عام 1397هـ. ويبدو أنّي لم ألحق بالمدير العام للتلفزيون آنذاك الأستاذ عبدالرحمن الشبيلي لانتقاله لوزارة التعليم العالي. ويُخيّل لي أنه ابتُعث لمواصلة دراساته العليا، حتى نال درجة الدكتوراه في الإعلام من أمريكا. هذه معلومة، أتخيلها من خلال مسيرته، دون التثبت من تاريخها وفترتها الزمنية. الدكتور عبدالرحمن الشبيلي أعتبره شخصياً، دون تردد، من (أعلام الإعلام) في المملكة العربية السعودية، بل من جيل الرواد وأشهرهم على الإطلاق.. قامة شامخة في المشهد الإعلامي والثقافي بشكل عام، والمشهد التلفزيوني بشكل خاص، في زمنه؛ إذ كان له قصب السبق في الإسهام في تأسيس إذاعة وتلفزيون الرياض، والصور التي توشح بها كتابه الجديد (قصة التلفزيون في المملكة العربية السعودية)، الذي تكرم بإهدائي نسخة منه، تؤكد ما نذهب إليه. مشاهد مثبتة بالتواريخ مع وزيرَيْ الإعلام السابقَيْن (الأستاذ جميل الحجيلان والأستاذ إبراهيم العنقري رحمه الله). هذه المشاهد تحكي جهود الرجل، فلا أخاله إلا من مؤسسي الحقبة الذهبية للإذاعة والتلفزيون بشكل عام، والتلفزيون بشكل خاص، وهي الفترة التي يحلو لنا تسميتها بالزمن الجميل. شرُفت بزيارته في منزله العامر بالرياض، واستمعت وأنست لأحاديثه، وسبرت فكره عن كثب، استوحيت في جلساتي القليلة معهقته وحرصه على استثمار وقته، والانكباب على حقله، الذي يقطف منه أزهاره وثماره اليانعة، والمتمثلة بإصداراته العديدة التي شكلت رزماً ثقافية وإعلامية، أنارت الطريق للمبتدئين وسالكي هذا الطريق. الشبيلي رجل وقّاد ومتوقد الذهن، ذو نشاط واسع، لا يكل ولا يمل، ما شاء الله عليه، تجده في المنتديات والملتقيات الأدبية والأسبوعيات الخاصة، الفكرية منها والثقافية، دون ضجيج. ومما يلفت الانتباه عدم غيابه عن المشاركة في المناسبات الوطنية في منابر وسائل الإعلام المتنوعة؛ كونه يملك حساً وطنياً لافتاً. الدكتور عبدالرحمن الشبيلي ظلّ رقماً فاعلاً ونشطاً في أكثر من مرفق حكومي وشعبي حتى اليوم، كان حاضر العطاء في وزارة التعليم العالي من بوابة منصبه، وكيلاً فيها، وأستاذاً للإعلام في جامعة الملك سعود، ثم عضواً في مجلس الشورى لثلاث فترات متواصلة، وبعد خروجه من الشورى لم يفت عضده، ويركن للدعة؛ تراه محاضراً في المنتدى الفلاني، في المدينة أو المحافظة الفلانية، مشاركاً في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومشاركات أخرى تطوعية وثقافية، محباً للثلوثيات والأسبوعيات الخاصة، يخطب ودّه الجميع، يتسابقون على الظفر به لثرائه المعرفي الواسع، ولسلامة فكره، وغزارة إنتاجه.. ولا غرو في ذلك؛ فقد بلغ إنتاجه الفكري أكثر من ثلاثين مؤلفاً في الإعلام، والسير، والتراجم، ناهيك عن الكم الهائل من المحاضرات المطبوعة له، كل ذلك ساهم في تشكيل عقلية الرجل؛ ما جعله موسوعة إعلامية، قلّ نظيرها في هذا الزمن. تتحدث معه ترى فيه تجنب التنظير، قليل الكلام، يميل للاستماع، تطرب لحديثه، تشعر بصدقه وإخلاصه وحرصه على وطنه.. شعرت بنزاهته، فيه تواضع الكبار.
الدكتور عبدالرحمن الشبيلي من أبناء عنيزة الأوفياء، عنيزة التحضر والفكر والعطاء، ومنبع رجالات الدولة الأوفياء. وفي تقديري الخاص، إن عطاءات هذا الرجل الإعلامية بالذات لم تحظَ بذاك الاهتمام، لكني أراه لم يلتفت لمثل هذه الشكليات، التي لا تقدم ولا تؤخر، وظل في طريقه الذي رسمه لنفسه، ينظر إلى أمامه، لا يلتفت إلى خلفه، حتى بات اسماً لامعاً في عالم الإعلام، ورائداّ فذاً من جيل الرواد، دون مشاحة، وظل في نظري قامة فكرية نيّرة، وأنموذجاً فريداً يُحتذى. ويظل الشبيلي وأمثاله مكسباً ثرياً لطلاب الإعلام بشكل خاص، ورفيقاً لعشاق الثقافة والفكر بشكل عام.
بقي القول إن قطاع الإعلام في حقبه السابقة لم تستفد من خبرات هذا الرجل، ولو في مجال الاستشارات والتدريب، خاصة أنه لم يزل محتفظاً بحسّه ووهجه الإعلامي والثقافي، حاضراً في المشاهد والمنابر كلها.
بقي القول إن من بقي من جيل (الروّاد وصنّاع الإعلام) أمثال الدكتور عبدالرحمن الشبيلي - من وجهة نظري - لا ينبغي التفريط بإنجازاتهم وخبراتهم التراكمية؛ لتُحقن بها العقول الواعدة في مجال اختصاصها، ولتتلاقح بها المعاصرة مع الأصالة.. ودمتم بخير.