د. حمد بن محمد آل فريان
يقول الباحثون إنه باستقراء السيرة النبوية وباستقراء كتب الحديث الصحيحة وكتب المغازي، بل التاريخ الإسلامي بعامة يتضح أن الإدارة الإسلامية كانت قد أرسيت قواعدها في العهد النبوي الشريف.
وفي هذا السياق يقول علماء المسلمين إن من تتبع تاريخ الإسلام يجد أنه في العهد النبوي كانت هناك وظائف في دولة الإسلام متنوعة أسندت للأكفاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الوظائف ولاية القضاء والكتابة بأنواعها والعهود والمواثيق والرسل والترجمة والعاملين على الصدقات والقاسمين والإمارات وقيادة الأجناد وحمل الرايات والعيون والحراسات وأهل السر.. إلى غير ذلك من الوظائف والصلاحيات مع الوحدة في القيادة وفي الأمر ومبدأ تكافؤ السلطة مع المسئوليات وتطبيق مبدأ اللامركزية في إدارة الدولة وأنه كان هناك تنسيق كامل بين المستويات على أساس المشروعية على نحو يحقق الانسجام والبت والإنجاز ويضمن الاستقرار والأمن وتحقيق العدل والشورى والمساواة يقول الشيخ عبد الحي الكتاني: «إن من عرف نهضة الإسلام وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وأمعن النظر في تلك النهضة تحقق أن ليس هناك من أساليب التمدن ما لم يكن الإسلام وقت ظهوره أصلاً له وينبوعا « انظر كتاب «نظام الحكومة النبوية» المسمى «التراتيب الإدارية» للكتاني- طبع الكتاب العربي - بيروت.
وفي عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم- برزت بجلاء عالمية الإدارة الإسلامية التي أرسى قواعدها النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، وقد تبيّن للباحثين سعة أفق الإدارة الإسلامية ومصداقيتها عدلاً واعتدالاً وخلقاً ووسطية، وتبيّن للباحثين أيضاً أنه متى طبّقت قواعد الإدارة الإسلامية تطبيقاً حسناً وفعِّلت مبادئها بحكمة وبعد نظر فإنه يتحقق لا محالة اجتماع كلمة الأمة وتضامنها وانقيادها ورضاها، ويضرب الباحثون المثل بعهد عمر بن الخطاب بخاصة وصدر الخلافة الراشدة بعامة وفوق ذلك وقبله الإدارة في العهد النبوي الشريف، ويقولون إنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتسع نطاق الإشراف الإداري تبعاً لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، وتنوّع الشعوب والأعراف والبيئات في دولة الإسلام يضاف إلى ذلك تعاظم الأعباء وتشعب الواجبات وقسوة المواجهة، إلا أن الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب كانت ناجحة بكل المقاييس، وقد سعد الناس بالأمن والاستقرار والعدل والرعاية المتميزة وبعد عهد صدر الخلافة الراشدة واجهت الإدارة الإسلامية على مر التاريخ فتناً ومحناً وهزائم وانتصارات وأمناً وخوفاً واجتماعاً وانقساماً وعلماً وجهلاً تبعاً لواقع الأمة الإسلامية في كل عصر قوة وضعفاً إلا أن قواعد الإدارة الإسلامية ومبادئها بقيت خالدة في جوهرها وفي حقيقتها محتفظة بجاهزيتها ومصداقيتها في الحفاظ على الضرورات الخمس (الدين والنفس والنسل والعقل والمال) وتحقيق المقاصد الشرعية في جلب المصالح ودرء المفاسد وخضوع الحاكم والمحكوم لشريعة الإسلام وفوق ذلك فقد ضمنت الإدارة الإسلامية للإنسان حقه في الاستمتاع بما يحتاجه في حياته وعبر عنه علماء المسلمين بالحاجيات وضمنت للإنسان حقه في الاستمتاع بالرفاه في حياته وهو الذي عبّر عنه علماء المسلمين بالتحسينيات.. انظر كتاب الموافقات لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي المتوفى سنة 720 هجري. وقد ثبت أن الإدارة الإسلامية تؤتي ثمارها كلما أحسن تطبيق قواعدها وتفعيل مبادئها بالعلم والعدل وصحة العقيدة وحسن النية وعبقرية القيادة ومما يبرهن على صحة هذا المفهوم ويعزّزه ما حصل للإدارة الإسلامية بعد قيام دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومناصرة الإمام محمد بن سعود - رحمهما الله- لتلك الدعوة، حيث نهضت الإدارة الإسلامية من كبوتها بحيوية ونشاط وبفاعلية واضحة وجلية في جميع أدوار الدولة السعودية الألى والثانية وتألقت الإدارة الإسلامية أكثر فأكثر في عهد المؤسس عبدالعزيز ومن جاء بعده من أبنائه البررة الكرام إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الزاهر المتميز الحكيم الشجاع العبقري.
وقد أثبتت الإدارة الإسلامية جدارتها ومقدرتها وتميزها في ذلك الوقت وإلى يومنا هذا وإذا قدّر لعلماء الإدارة والتنظيم وإدارة الحشود أن يدرسوا هذه الإدارة بعناية وبتجرّد وباستقلال علماً وعملاً وقدّر لهم أيضاً أن ينقلوا ما علموا بحصافة من خلال تدريس الإدارة الإسلامية في معاهد الإدارة وفي الجامعات وفي المدارس المتخصصة في البلاد العربية والإسلامية إذا افترضنا حصول هذا النهج العلمي النزيه فسيكتشف العالم من جديد أنه فات عليهم زمن طويل كان بالإمكان ألا يفوت، نعم كان بالإمكان أن تحيط البشرية علماً بالإدارة الإسلامية في وقت مبكر وكان بالإمكان أيضاً أن تقتبس أمم العالم من الإدارة الإسلامية ما يفيد الإنسان المتعطّش للأمن والاستقرار والعدل والرفاهية العاقلة المتوازنة وأن ينقذ الإنسان نفسه من درك الشقاء وسوء المنقلب ومما لا شك فيه أن دراسة وتدريس الإدارة الإسلامية باحترافية وحياد سيقيم الدليل القاطع.
على أن الإدارة الإسلامية كانت ولا تزال رفيعة المستوى بأخلاقياتها وبمعاييرها وبإنسانيتها وبعدلها وباعتدالها، وسيتبين لكل إنسان عاقل سوي أن الإدارة الإسلامية ثرية بمقوماتها ومكوناتها وأنها مع ذلك مفتوحة الأبواب لكل جديد مفيد لا يتعارض مع القيم والشيم النبيلة والأخلاق العلية ولا يتعارض مع العقيدة الصحيحة. وسيعلم الباحثون أن الإدارة الإسلامية نأت بنفسها عن منزلقات الإدارة الرأسمالية فيما يختص بالغلو في الإباحية والحرية الفردية التي أثبت الواقع أنها تتعارض مع مصالح المجتمع الإنساني وترفضها الشرائع السماوية وسيعلم الباحثون أن الإدارة الإسلامية نأت بنفسها أيضاً عن منزلقات الإدارة الشيوعية الماركسية التي فشلت في تقديم حل للمعضلة البشرية بعدما تَكشَّف بطلان زعم العقل الشيوعي بأن معضلة البشرية منحصرة في الصراع الطبقي كما تدعيه الإدارة الماركسية الشيوعية وظهر للبشرية أن المعضلة البشرية أخلاقية اعتقادية في الدرجة الأولى.
ويقول الباحثون إن الإدارة الإسلامية هي المرشحة للإسهام بفاعلية في إسعاد البشرية لأنها تملك نصيباً وافراً من الأخلاق المنسجمة مع الفطرة البشرية المعتدلة وإذا افترضنا صحة ما قاله الباحثون في هذا الخصوص وهو صحيح فإن من حق البشرية أن تعلم حقيقة الإدارة الإسلامية ومن حقها أيضاً أن تستفيد من إيجابياتها ومما لا شك فيه أن الوقت موات ومناسب لتحقيق ما فيه سعادة الإنسان المتعطش للعيش في ظل الأمن والاستقرار والعدل والأخلاق أياً كانت ثقافته وأياً كان وطنه وأياً كان لسانه وأياً كانت إمكاناته.
وفي السياق يقول الباحثون إن الإدارة الإسلامية شدت انتباه العالم في الوقت الحاضر فاكتشفوا من جديد أن الإدارة الإسلامية معنية بصيانة الحقوق المشروعة واحترامها ومعنية بحفظ العهود والمواثيق والوفاء بها ومعنية بحسن الجوار ونصرة المظلومين وصد المعتدين هذه الإدارة التي سعى العالم للتعرّف عليها من جديد بلهف أصبحت وكأنها في حكم الحاضر الغائب بالنسبة للبعض وقد وجدوها واقعاً وتاريخاً ملتزمة بصدق وإخلاص بدين الإسلام الحق المسالم العادل وملتزمة بالعقيدة الصحيحة وملتزمة أيضاً بمبادئ وقيم ونظم وأحكام في ظل شريعة الإسلام لا تقر بالطبقية ولا تعترف بالتمييز العنصري وتقبل التعددية الثقافية بين شعوب البشر ليس من أهدافها على مر التاريخ الانتقام العدواني ولا التوسع الاستعماري لأنها محكومة بقواعد وحدود ونظم شرعية لا تتجاوزها، ولها اهتمام بدين الأمة، حيث تعول على صفاء العقيدة كما تعنى بدنيا الإنسان ورفاهيته المباحة وفي منظورها أن استقامة الإدارة في منزلة ما لا يتم الواجب إلا به فالإدارة الجادة المخلصة العادلة واجبة شرعاً في خدمة الصالح العام ومن المتفق عليه أن الإدارة الإسلامية تعنى بأمرين مهمين الأول الاعتصام بحبل الله، وألا تتفرّق الأمة والاعتصام بحبل الله من أصول الإسلام ومما عظمت به وصية الله جلّ وعلا وعظمت به وصية نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، الأمر الثاني أن السنة المحفوظة عن النبي صلوات الله وسلامه عليه فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج عن الأمة.
ومن المعلوم أن الإدارة الإسلامية عقائدية تتبنى المعروف وتعمل به وتنبذ المنكر وتنهى عنه بحزم وهي في كل ذلك تسعى بجدية في منع وقوع ما لا ينبغي وقوعه بمقتضى قواعد وأحكام الضبط الإداري والضبط القضائي ومما لا شك فيه أن الإدارة الإسلامية تعي مسئوليتها إزاء الأمن والاستقرار والعدل وتحفظ للإنسان حريته كاملة في إطار أخلاقي عادل متوازن وتعنى بأمر السمع والطاعة في غير معصية وترفض المنابذة والحسد والحقد والبغضاء والغلو والانزلاق والتفسخ وشق العصا وترعى بعناية متطلبات النصح والإرشاد والتعاون على البر والتقوى. إن أمة الإسلام التي هذا نهجها وهذه منطلقاتها أمة قوية قادرة على حماية مكتسباتها، وحماية أمنها واستقرارها فالأمة في منظور الإدارة الإسلامية كالجسد الواحد في مواجهة أي حادثة تكون.
وختاماً نقول: إذا كان واقع حال الإدارة الإسلامية كما ذكر وأعظم مما ذكر ألا يمكن القول إنها إدارة عريقة ومستقلة وذات مصداقية لا شرقية ولا غربية وألا يمكن أن يقال إنها إدارة تستحق الدراسة والتأمل.