عبدالرحمن عبدالله النور ">
ها هو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن يعودنا من جديد، جعلنا الله من قوامه وصوامه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين».
دأب بعض الناس على طرح السؤال التالي عند دخول شهر رمضان من كل عام: لماذا لا نستخدم الحسابات الفلكية أو تقنيات الأقمار الصناعية الحديثة لتحديد دخول الشهر القمري بدل أن نقتصر على رؤية هلال الشهر برصده بالعين المجردة؟
وكنت أطرح هذا السؤال مثل الآخرين ولكنني كنت أيضاً أبحث عن الحكمة في هذه المسألة ووصلت إلى إجابة تتعلق بأساسيات الأحكام الشرعية، كيف؟
الأحكام في الشرع تبنى على أفعال العباد الظاهرة للعيان، أي التي تشاهد بالعين المجردة، بمعنى أن التشريع جاء في حدود القدرة البشرية المجردة على إدراك الأشياء على ظاهرها بالعين المجردة، ومن المعروف أن بعض أفعال العبادة ترتبط بأزمنة محددة، وهذه الأزمنة ترتبط بالشهر القمري، أي الشهر الذي يبدأ فيه القمر بالظهور كهلال صغير يحدد أول الشهر، يقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة - الآية 189: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ورد في تفسير ابن كثير عن هذه الآية ما يلي: «قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج؛ يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم، وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله (يسألونك عن الأهلة قل هي مفواقيت للناس) يقول: جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومحل دينهم».
فإذا كانت أهلة الشهور القمرية التي هي بداية ظهور الهلال للرائي بالعين المجردة هي مثل التنبيه البصري على دخول الشهر وإذا كانت الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد مرتبطة برؤية ظاهر هذه الأفعال بالعين المجردة؛ فإن من الحكمة أن يكون إعلان دخول الشهر القمري برؤية هلال الشهر بالعين المجردة، ليكون الهلال علامة بصرية ترسم حدود القدرية البشرية على رؤية الأشياء في حالة صغرها وبعدها عن العين الراصدة.
ومن يتأمل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين»، يدرك حقيقة أن التشريع يعتمد على رؤية ظاهر الأشياء، ولذلك جاء الشرط في الحديث (فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)، أي فإن حجب الهلال فاقدروا له ثلاثين يوماً وهذا هو كمال عدد أيام الشهر القمري، والحجب هو ضد الرؤية، وبضدها تتميز الأشياء، أي أن حجب رؤية الهلال في بعض الأحيان هو لتمييز وتأكيد أمر رؤيته عند ظهوره للعين المجردة، وهذا الأمر هو من تقدير الله للأمور ومن حكمة تشريعه، ولو شاء الله تعالى لما حجب رؤية الهلال شيء، ولو شاء الله تعالى لجعل القمر في اكتماله بدراً علامة على بدء الشهر القمري.
والسؤال الآن هو: إذا كانت الأهلة مواقيت للناس يقوم عليها أمر عبادتهم، فلماذا لا تنشأ هيئة متخصصة في رؤية الأهلة ويكون لها آلية وطريقة واضحة معتمدة في رصد الأهلة بدل أن يكون هذا الأمر متروكاً لمجهود فردي هنا أو هناك؟
أخيراً، أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا الشهر شهر خير وبركة على جميع بلاد المسلمين وأن يجعلنا من عتقائه من النار.
والله تعالى أعلم.