عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم الريس ">
الحمد لله الذي فتح بابه للطالبين، وأظهر غِناه للراغبين، وحَثَّ على دعائه في كتابه المبين، ولم يَزَل متفضِّلًا على المخلوقين، دعا عباده إلى طريق جنته، وعَمَّ بالدَّعوة جميع بَرِيَّته، وأوضح طريقها بإظهار مَحَجَّته، فَشَمَّر إليها أهل توحيده وخدمته، واتخذوا صالح الأعمال إليها سبيلا، وجعلوا هدي الرسول إلى تلك السُبُل دليلا، فسبحان من أيقظ بتوفيقه أقوامًا عن لذيذِ الرُّقاد، وشغلهم بمناجاته من بَيْنِ سائر العباد، يُناجون مولاهم ويرفعون حوائجهم إذا هجع النائمون، فأنالهم من فضله ما يطلبون، ولذَّذَهم بِخَلْوَةِ مناجاته إذا قاموا يتهجدون، عَلِموا أن الرِّبْح في معاملتِهِ فهم معه يتاجرون، وهِمَمُهُم إلى جنَّتِهِ فقاموا إليها يشمرون، فوفَّقَهُم الله وهداهم، وأسعدهم ولا أشقاهم، ومن خَيْرَي الدنيا والآخرة أعطاهم، ومن الجنة أدناهم.
أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ من رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، شهادةً ظَهَرَ نورها ولاح، وأَشْرَقَ هُداها في المساء والصباح، ونرجو بها من الله العفو والسماح، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى الخيرات، وخليلِ ربِّ الأرضِ والسموات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
قال الله سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (17) سورة السجدة [السجدة: 16-17].
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»، وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، لو أَرَدْتَ سفرًا لأَعْدَدْتَ له عُدَّة، فكيف بسفرِ طريقِ القيامة، ألا أنبئك يا أبا ذر بما ينفعك ذلك اليوم؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «صُم يومًا شديدًا حرُّهُ ليومِ النُّشُور، وصَلِّ ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور».
إخواني: هذا شهر الصيام والقيام، عبادة بالليل وعبادة بالنهار. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن صلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فينبغي للمسلم أن يحرص على قيام الليل بصلاة التراويح؛ لأنها من قيام رمضان لينال ثوابها وأجرها، ولا ينصرف حتى ينتهي الإمام من الوتر ليحصل له أجر قيام الليل كله قال عليه الصلاة والسلام: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة». ومع هذا الفضل العظيم لمن صلى التراويح مع الإمام إلاَّ أن هناك من يضيعها ويفرط فيها ويتكاسل عن أداء هذه الركعات القليلة، نسأل الله تعالى لنا ولهم التوفيق والهداية.
وإليك بعض الوقفات التي ينبغي أن نتنبه لها في صلاة القيام في رمضان:
الوقفة الأولى:
السُنَّة في القيام الإطالة، فلا تتأفف ولا تتذمر، وجاهد نفسك فأنت في عبادة. ففي حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كان القارئ يقرأ بالمِئِين ـ يعني: بمئات الآيات ـ حتى كنا نعتمد على العِصِي من طول القيام.
الوقفة الثانية:
مسح الوجه باليدين بعد دعاء القنوت لم يرد فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والأصل في العبادات المنع إلاَّ بدليل، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثالثة:
أكثروا من دعاء الله تعالى، خاصة في حال السجود؛ لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام: «أَمَّا السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِنٌ ـ أي: حَرِيٌّ ـ أن يستجاب لكم» [رواه مسلم].
الوقفة الرابعة:
لا تكثر من الطعام قبل صلاة التراويح حتى تؤديها وأنت مرتاح وخفيف، فيكون قلبك حاضرًا في الصلاة.
الوقفة الخامسة:
لأبنائك عليك حق التربية، فأحضرهم معك ليشهدوا صلاة الجماعة وصلاة التراويح، ورغبهم واجعلهم بجوارك وعوِّدهم على طاعة الله تعالى منذ الصِّغَر.
الوقفة السادسة:
احرص على التطيب والتزين عند ذهابك للمسجد؛ امتثالًا لقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
الوقفة السابعة:
حاول أن تُفَرِّغ نفسك في هذا الشهر من كثرة لقاء الناس قَدْرَ الاستطاعة، وتفرَّغ لأمرِ آخرتك، ولا تكن بعد صلاة التراويح كالتي نَقَضَت غَزْلَهَا، فبعد هذه العبادة من صيام وقيام تسهر على ما يغضب الله تعالى من مشاهدة أو سماع الحرام وحديث الغيبة والنميمة، والاستهزاء، والقيل والقال، وغير ذلك، فالكَيِّسُ من دان نفسه وعَمِل لما بعد الموت، والعاجز من أَتْبَعَ نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
الوقفة الثامنة:
احرص على المداومة على قيام الليل في رمضان وبعد رمضان، فإن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على الأعمال الصالحة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملًا أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة» [رواه مسلم (1-515)].
وعنها رضي الله عنها قالت: «وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجعٌ عن قيام الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة» [رواه مسلم (1-514)].
واعلم أن المداومة على الأعمال الصالحة سبب لحسن الخاتمة، وذلك أن المؤمن يصبر على أداء الطاعات كما يصبر عن المعاصي والسيئات محتسبًا الأجر من الله عز وجل، فيقوى قلبه على هذا وتشتدُّ عزيمته على فعل الخيرات والبعد عن المعاصي والسيئات فلا يزال يجاهد نفسه فيها، فيوفقه الله عز وجل لحسن الخاتمة.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27].
اللهم يا من ليس في الوجود إلهٌ سواه فيُدعى، وليس في الوجود ربٌّ سواه فيُرجى، اللهم يا من امتدت إليه أكفُّ السائلين، وخَرَّت لعبادته وجوهُ الساجدين، يا عالم السرِّ والنجوى، ويا كاشف الضُّرِّ والبلوى، يا من على العرش استوى، وعلى المُلْك احتوى، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، نسألك أن تجعلنا في هذا الشهر من المقبولين، اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك آيسين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، واجعل عملنا مقبولا، وسعينا مشكور، وذنبنا مغفورا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.