خالد بن عبد الله الغليقة ">
البوسنة، المنسية في أذهان كثير من الناس، كانت حاضرة بقوة في ذهن الملك فهد والشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمهما الله - وكان لها حضور قوي أيضاً في ذهن الملك سلمان - حفظه الله - رئيس الهيئة العليا لإغاثة مسلمي البوسنة والهرسك.
غادر الملك فهد والشيخ عبدالعزيز بن باز الدنيا ولم يكتبا مذكراتهما عن جهودهما في البوسنة والهرسك، وكذلك الملك سلمان لم يكتب مذكراته عنها، ولا أظنه يكتبها، وهذه سيرة حكامنا وعلمائنا من الملك عبدالعزيز والشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله إلى عهدنا عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله لا يستساغ ولا يستحب ولا يفضل كتابة المذكرات.
لكن كتبها الذي لا تخفى عليه خافية، ومن لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها سبحانه وتعالى، وسيكشفها في الآخرة؛ فبائع نفسه فموبقها أو معتقها!
أما الدنيا ففيها عاجل بشرى المؤمن أن يأتي من يقدر تلك الجهود ويكتب عنها، وينسب الفضل إلى أهله، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذو فضل! ففي البوسنة شهد البعيد قبل القريب عن تلك الجهود، فقد ذكر الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون وتشارلز فريمان، وهو سفير أمريكي سابق، غضب الحكومة السعودية وعلى رأسها الملك فهد من اعتبار قضية البوسنة شأناً داخلياً أوروبياً، وكذلك غضبت السعودية والملك فهد شخصياً من الرئيس الأمريكي بوش الأب - لاقتصاره على الدعم السياسي فقط دون العسكري، ثم حاول الملك فهد وألح في الطلب إلى الرئيس كلنتون للتدخل العسكري، وعرض الملك فهد على كلينتون أن باستطاعته تشكيل تحالف من الدول الإسلامية، وأن على واشنطن دعم هذا التحالف.
وأخيراً وافق الرئيس كلينتون على التدخل العسكري، ثم وافقت أوروبا على ذلك، وضرب الصرب وأوقفوا عند حدهم، وانتهت أكبر المجازر والتهجير والتجويع في هذا القرن.
هذه إلماحة عن دور الملك فهد - رحمه الله - السياسي والعسكري، وبعد ذلك جاء دور البناء وإعادة الحياة للبوسنيين وعمارة أرضهم ومساجدهم وتنمية بلادهم، والتي قادها الملك سلمان - حفظه الله -، بترؤسه اللجنة العليا لإغاثة البوسنة والهرسك.
وفي هذا المجال، فإن أفضل من يتحدث عن تلك الجهود وأصدقها حديثاً من كل ناثر أو شاعر أو صحيفة أو إذاعة هي الأرقام؛ فهي تتحدث بكل صدق وشفافية عن هذا الدعم وتلك السيرة العطرة، وتلك الجهود المباركة؛ فالأرقام أصدق من غيرها وأكثر صراحة في الدلالة والبيان.
تقول تلك الأرقام إن اللجنة السعودية العليا لإغاثة البوسنة والهرسك برئاسة الملك سلمان - حفظه الله -.
قد أمنت ووزعت مواد إغاثية بتكلفة بلغت: مائة وعشرة ملايين وستمائة ألف دولار (110.600.000) وأسهمت الهيئة بالتعاون مع مصلحة المياه في سراييفو في استغلال نبع (البيفارة) الذي يغطي قرابة 15% من احتياجات سكان العاصمة من مياه الشرب، وذلك بتوفير النفط اللازم يومياً لتشغيل المولدات الكهربائية المستخدمة في ضخ الماء، كما تولت الهيئة حفر 15 بئراً في مختلف أنحاء مدينة سراييفو، وكذلك قدمت صهريجاً يستخدم في توزيع الماء على بعض أحياء العاصمة سراييفو.
ولأهمية الكهرباء لكثير من مرافق المدينة، كالمستشفيات والملاجئ ودور العجزة ودور العبادة؛ فقد عملت الهيئة على إعادة التيار الكهربائي إلى أربعة من أحياء سراييفو إبان فترة الحصار، ضمن برامجها الإغاثية والإنسانية.
وعملت الهيئة على إيصال الغاز إلى تسع مناطق سكنية و23 مسجداً في العاصمة سراييفو، وكان لهذا العمل الذي نفذ في أثناء الحصار دور كبير في توفير الدفء للأطفال والشيوخ المرضى في المستشفيات والمصلين في المساجد، وخفف من وطأة البرد القارس على عدد كبير من العوائل البوسنية، وفي إطار عودة اللاجئين استهل برنامج العودة بالمشروع الملكي الذي تبناه الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بإصدار أوامره بإعادة وكفالة ثلاثمائة عائلة مسلمة مهاجرة من البوسنة على نفقته الخاصة، وبلغ عدد القوافل التي نقلت اللاجئين 32 قافلة، وبلغ عدد العائدين 12.706 لاجئين، ووصل قيمة ما صرف لصالح هذا البرنامج 6.012.646 دولاراً أمريكياً.
بلغت التكلفة الإجمالية للبرامج الموسمية 12.836.864 دولار وبلغت تكلفة الرعاية الصحية 6.272.835 دولار، وأنفق في مجال التعليم على 15 مدرسة في كرواتيا والنمسا وتركيا والمجر، يبلغ عدد طلابها 30000 طالب وطالبة، وعدد أساتذتها 825 مدرساً، وطبعت كتب لـ45000 طالب وطالبة، ووزع 550.000 مصحف من ترجمة معاني القرآن الكريم، وأقيمت 90 حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، درس بها نحو 4000 طالب وطالبة، وأقيمت 130 دورة شرعية استفاد منها عدد كبير من الدارسين والدارسات، إضافة إلى ابتعاث 60 طالبا لدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية في الأردن لمدة سنتين، وتخصيص 100 منحة للدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، زيادة على تقديم المساعدات المالية لنحو 4739 طالباً من خلال دفع رسوم التسجيل ونفقات الإعاشة وتوفير الكتب المدرسية والجامعية. وترجم، ضمن مشروع ترجمة الكتب إلى اللغة البوسنية وطباعتها وتوزيعها على الأفراد والجهات، أربعون كتابا، وطبع منها أكثر من مليوني نسخة وزعت على مسلمي البوسنة والهرسك نسخة أفراداً وجهات على شكل كتب متفرقة، أو على شكل مكتبة للأسرة التي أعدتها الهيئة في عبوة واحدة؛ إذ تحتوي كل مكتبة على 25 عنواناً من الكتب المترجمة في شتى الموضوعات المتعلقة بالثقافة الإسلامية.
وفي السياق ذاته أنشأت الهيئة أكاديمية الأمير سلمان بن عبدالعزيز في بيهاتش، واقيمت على مساحة ألف متر مربع بتكلفة إجمالية 1.12 مليون دولار أمريكي، وساهم فيها البنك الإسلامي للتنمية بمبلغ 555 ألف دولار أمريكي.
وتعد الكلية الإسلامية في مدينة سراييفو من المعالم الأثرية البارزة في المدينة، ولقد تعرضت هذه الكلية لأضرار بالغة بفعل تساقط القذائف والصواريخ على المدينة إبان الحرب، ولأهمية هذه الكلية التي تخدم المئات من أبناء سراييفو بتوفر التعليم الإسلامي، بالإضافة إلى العلوم العصرية الأخرى؛ فإن الهيئة السعودية العليا تبنت مشروع ترميم هذه الكلية ضمن مشروعاتها التنموية لصالح الشعب البوسني.
وامتداداً لهذه المساعدات التي شملت كثيراً من المرافق الحيوية والمهمة للجمهورية تواصلت المساعدات لترميم البنية التحتية وبناء المدن التي تعرضت للقصف وهدم معالمها وخدماتها الأساسية أصلحت وأهلت المرافق العامة، وشبكات المياه والكهرباء والغاز، وأمنت أجهزة الحاسب الآلي لبعض القطاعات، وشقت طريق (تسارين بوجيم) وأعيد تأهيل خط السكك الحديدية، وأنشئت دار الوالدين النموذجية لرعاية الأيتام بتكلفة 5.333.333 دولاراً، وتبنت الهيئة مشروع إعادة أعمار مدينة برتشكو، فرممت الهيئة 1200 وحدة سكنية، وقد بلغت التكلفة الكلية للمشروع 7.5 ملايين دولار أمريكي، إلى جانب بناء المساجد وترميمها وإصلاحها في جمهورية البوسنة والهرسك، وأنشأت كذلك مسجد ومركز خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الثقافي في سراييفو، وقد بلغ إجمالي تكلفة هذا المشروع 9.772.222 دولاراً، ويضم المسجد قسماً لتعليم اللغة العربية والحاسب الآلي والمكتبة المركزية وصالة المعرض الدائم، إلى جانب قاعة المحاضرات العامة والمطبخ المركزي وقاعة الطعام، والصالة الرياضية، وأنشأت الهيئة عدداً من المراكز والمؤسسات الثقافية المهمة في البوسنة والهرسك، مثل مشروع المركز الثقافي في موستار، ومشروع مسجد وجامع مركز الأميرة الجوهرة البراهيم الثقافي في مدينة بوقوينو، وقد بلغ إجمالي تكلفة المركز 3.9 ملايين دولار ويحتوي على جامع كبير بسعة ألف مصل و650 مصلية، ومبنى المركز للمكتبة والمسرح، إضافة إلى المبنى التجاري والسكني وروضة الأطفال.
وبعد؛ فهذه بعض مذكرات حكامنا وعلمائنا عن اهتمامهم بشؤون المسلمين وقضاياهم وسيادتهم واستقلالهم وتنمية بلدانهم، فليست هي لديهم شعارات زائفة وعناوين براقة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والدمار والمكر والخديعة، بل عمل وجهد بلا شعارات ولا مزايدات، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه؛ فنعم المذكرات! ونعم المهمات! ونعم العلو في الحياة وفي الممات!