هناك خصلة جميلة ونادرة في الدكتور عبدالله النفيسي، وهي تراجعه عن بعض آرائه وتحليلاته السياسية إذا تبين له عدم صحتها أو عدم واقعيتها.
وأقرب مثال على ذلك تراجعه في لقاء معه تجاه سياسة دول الخليج وعلى رأسها المملكة إزاء أزمة اليمن وانقلاب الحوثيين وعلي عبدالله صالح؛ فقد علق على بيان مجلس التعاون الخليجي بأنه بيان ملتو وزئبقي! ثم قال بعد ذلك في لقاء معه: (إن عاصفة الحزم جعلتني أتراجع عن تعليقي وأبين خطئي في ذلك).
حقاً، لقد كشفت عاصفة الحزم، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وفضحت ضحالة بعض المحللين في التحليل السياسي، وأسقطت كثيراً من النظريات السياسية السطحية، فقد كنا نسمع أن السعودية هي من تقف خلف الانقلاب الحوثي، وأنها داعمة له، فجاءت عاصفة الحزم لتسقط هذا التحليل، ولتكشف سطحية المحللين الذين تبنوا هذه النظرية، وكشفت أيضاً سوء الظن بالسياسة السعودية.
وكنا نسمع ونقرأ بأن السعودية بسياستها تجاه دعم الاستقرار في مصر، وتقديم الاستقرار والأمن على كل المثاليات وأحلام ما بعد الثورة، ودعم من يملك القوة السياسية والعسكرية لمواجهة مشروع الفوضى الخلاقة! وفكرة مشروع زرع عراق ما بعد صدام في مصر ما بعد مبارك، بكل ما تعنيه هذه الفكرة لمن ليس لديه تصور عن هذه الفوضى ورؤية تجاه تلك الفكرة، فضلاً عن امتلاكه للقوة السياسية والعسكرية لفرضها على أرض مصر وحدودها، وفضلاً عمن هو أداة لتحقيق الفوضى، وما يتبعها من تدمير لوحدة الشعب المصري ووحدة الجيش المصري، كما دمرت وحدة الشعب العراقي والجيش العراقي.
فجاءت عاصفة الحزم لتوضح ولتبين بعد نظر السياسة السعودية تجاه استقرار مصر، وذلك في مشاركتها في عاصفة الحزم سياسياً وعسكرياً.
وحتى نعرف أبعاد تلك السياسة لنتصور نجاح المخطط الداعم للثورة في مصر، ولنتصور نجاح مشروع الفوضى الخلاقة، وخطة تفكيك الجيش المصري، كما فكك الجيش العراقي، ولنتصور تمزق وحدة الشعب المصري، كما مزق الشعب العراقي؛ فهل ستشارك مصر في عاصفة الحزم؟
الجواب هو في حال بلدان الربيع العربي الأخرى.
وكنا نسمع ونقرأ من يقول بأن السياسة السعودية تجاه الربيع العربي أكسبت السعودية الأعداء وخسرتها الأصدقاء؛ فجاءت عاصفة الحزم لتسقط هذه النظرية، بل إن عاصفة الحزم ذهبت إلى أبعد مما يتصوره أصحاب هذه النظرية؛ فقد أبانت عن مشاركة من يسمون بالأعداء أكثر وأعمق من مشاركة من يسمون بالأصدقاء!
درس وعبرة:
كنت وغيري نسمع أن أزمة الخليج الثانية، وهي احتلال العراق للكويت، وما رفع فيها من شعارات ظاهرها الرحمة والوحدة، وتحرير أرض المسلمين والعرب من المستعمرين، وباطنها العدوان والحروب والتشتيت = هي حرب على صدام وعلى الإسلام، بقيادة السعودية ومعها الكفار والمنافقين؛ فجاءت عاصفة الصحراء بقيادة الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -. فسقطت تلك الشعارات واتضحت سطحية تلك التحليلات ومراهقتها، وانكشف سوء الظن بالسعودية وعلمائها، وظهر بعد نظر السياسة السعودية وعلمائها، وحسن مقصدهم تجاه الإسلام والمسلمين والوحدة العربية والاستقرار.
كنت وغيري نتوقع أن هذا كله كافٍ بأن تعيد كثير من الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية ترتيب أوراقها وتتأنى في إصدارها أحكاماً متسرعة، من تخوين وتكفير وتصهين، وتوقعنا أن تنضج بعد مراهقتها السياسية والفكرية، وتحسن الظن بحكام السعودية وعلمائها، بعد إساءة الظن بهم!
وكنا نتوقع أن تتعمق نظرتها تجاه الشعارات البراقة بعد سطحيتها؛ لكن مع الأسف - وأقولها بكل حرقة وحسرة: إن هذا كله لم يحصل!
فأطلت علينا المراهقة من جديد، كما قال الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية وظهر سوء الظن بحكام السعودية وعلمائها مرة أخرى، بعد ظهور ما يسمى بتيار الممانعة والمقاومة، وبعد حروب دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة وفي لبنان، وأخيراً بعدما ظهر ما يسمى الربيع العربي.
والآن جاءت عاصفة الحزم، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، لتسقط تلك الشعارات الفارغة، وينكشف زيفها وخداعها، ويظهر وجهها القبيح وسياستها الشريرة للمرة الثانية بعد عاصفة الصحراء، بل للمرة الثالثة إذا عددنا ضمنها شعارات القومية العربية والاشتراكية الفارغة من الخير والحق، والتي سقطت وانكشف زيفها على يد الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله -.
فالسؤال الحتمي والمصيري في زمن تكالب الأعداء واصطفافهم على الأمة العربية والإسلامية هو: هل تكتفي الشعوب العربية والإسلامية بعاصفة الحزم لإعادة النظر في قراءة الأحداث والشعارات والعلاقات؟ أم تحتاج إلى أزمات أخرى وعواصف أعتى؟