د. خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل ">
باختصار شديد يلخص عالم النفس الكبير «برايان تريسي» - الذي أجرى آلاف التجارب لاكتشاف لقاح النجاح!- يلخص مفهومه للنجاح بأن الإنسان أسير لاعتقاداته وأفكاره، أياً تكن هذه الأفكار والاعتقادات، فإذا كانت صحيحة وإيجابية فحياته ستكون كذلك، والعكس صحيح أيضا، فقل لي ما هي الأفكار التي تحملها أقول لك كيف ستكون حياتك؟ وهل ستحقق غايات النجاح الست قبل أن ترحل أو لا؟ والغايات الست كما حددها - تريسي - هي: سكينة القلب وهدوء البال، وتحقيق مستوى عال من الطاقة، وتحقيق علاقات طيبة مع الناس، وعدم الاحتياج المالي، ووجود أهداف ذات قيمة، والشعور بتحقيق الذات، هذه تقريباً أهم الاحتياجات البشرية.
وغني عن القول أننا كمسلمين لدينا اعتقادات راسخة لا يمكن أن يتسرب إليها الشك أو أن تكون قابلة للمراجعة والاختبار، مثل يقينيات الشريعة وثوابتها، وهذه ليست هي - بالطبع - حديثنا، وإنما ما أعنيه بالتحديد هي قناعاتنا وتصوراتنا المتحركة للحياة والكون ولكل من حولنا. هذه التصورات -قطعاً - لا تأتي معنا في رحلة القدوم الأولى لهذه الدنيا وإنما نكتسبها من المواقف والمشاهدات والحوارات اليومية، وعادة ما يتعرض الإنسان في محيطه لانتكاسات وإخفاقات في الكثير من المواقف والأحداث التي يمر بها، ولابد لهذه المواقف أن تساهم بتشكيل تصوره ورؤيته للحياة، ولهذا ليس ببعيد أن يقضي الإنسان شطراً من عمره في التعاسة؛ لأنه لم يكتشف نفسه بالشكل الصحيح، أو أنه تم اكتشافه بطريقة خاطئة، فيظل أسيراً لهذا الخطأ، وما لم يصادف من يصحح له مساره ويعيد اكتشافه من جديد فربما أمضى العمر كله على هذا النحو، كما كاد فيكتور الكاتب الشهير أن يدفع حياته كلها ثمناً لخطأ يسير في قياس مستوى الذكاء عنده، فتحول إلى بائع شعبي للصحف في الشوارع والحارات، وبعد مدة طويلة أجرى قياساً صحيحاً للذكاء فوجد أن ذكاءه في مستوى متقدم، فبدأ في بناء نفسه من الداخل ومزق الصورة السلبية في ذهنه، وارتفع لديه مستوى تقدير الذات بشكل كبير، وما هي إلا سنوات يسيرة حتى تحول إلى نجم لامع، فصار أشهر الكتاب العالميين، تتنافس الجرائد والمجلات على استقطابه.
نعم لدينا الكثير من فيكتور في مرحلته الأولى؛ لأنهم لم يكتشفوا أنفسهم بالشكل الصحيح، ولم يصححوا أفكارهم، ولم يراجعوا قناعاتهم، ما تلقوه في بواكير حياتهم هو الذي سيمضون عليه حتى النهاية، ليس عندهم أدنى استعداد للمراجعة، وليس لديهم- في أقل الأحوال الاستعداد لاختبار قناعاتهم وفحصها، وكل حديث يطلب منهم المراجعة والفحص يستقبلوه بقدر كبير من الشكوك، تمضي عليهم السنوات الطويلة وهم يراوحون مكانهم، حتى تمددت مساحة الثوابت لديهم والتهمت كل حياتهم، ولم يبق لهم للحركة إلا مساحات قليلة، وكان من الطبيعي أن تكون الحياة - على هذا النحو - بطيئة في إيقاعها ومملة برتابتها، تذبل فيها - فجأة -لحظات الفرح والبهجة، وتغاب عنها الدهشة؛ لأنه ليس في حياتهم ما يدهش مادام أنهم يرفضون التغيير ويقاومون كل الأفكار التي تدعوهم للتغيير والتفكر، وليس لهؤلاء من سبيل إلا بأن يعيدوا اكتشاف أنفسهم مرة أخرى حتى يكتشفوا وجهاً جديداً في الحياة لم يروه من قبل، وهذا ليس بالأمر اليسير، بل يحتاج إلى إيمان راسخ بضرورة التغيير ومركزيته في حياتهم.
والنفس الإنسانية عادة ما تقاوم التغيير وتخاف منه إذا كانت تعيش في وسط التيار، وتستجيب للتغيير وتنقاد إذا كانت لوحدها، او انزوت مع صاحب لها في مكان بعيد عن الضجيج، ولهذا لما أراد الله عز وجل من كفار قريش أن يبحثوا عن الحق وأن يتبينوا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانفصال عن العقل الجمعي للمجتمع، وطلب منهم أن يكون كل واحد لوحده أو مع أخيه، ويفكر بطريقة مستقلة وسيهتدي إلى الحق {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ}. ولكون هذا الشهر العظيم يمتاز عن غيره من الشهور بمميزات كبيرة، من أهمها أن الإنسان يتخلص فيه من مؤثر كبير على قراراته، وهو الشيطان الرجيم، فالشياطين تصفد في هذا الشهر كما صح الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي لا يبقى أمام الإنسان سوى نفسه ونوازعها التي تقاوم التغيير وتدعوه إلى الكسل والراحة وإيثار السلامة، إضافة إلى أنه شهر يتخلص فيه البدن من الكثير من الأخلاط والسموم بسبب الإمساك عن الطعام والشراب من الفجر حتى غروب الشمس، فتخف النفس، ويصحو الجسد، وتتعافى الروح، فكل هذه المعطيات تجعل النفس البشرية في حالة من التوهج والتألق والسمو لم تمر بها من قبل، وبالتالي تكون لديها القابلية للتغيير عالية جدا، وينساب قرار التغيير منها بسهولة ويسر، ولهذا نقول بثقة: رمضان فرصة لا تعوض للنجاح. فلكل الطامعين بالتغيير والنجاح نقول: رمضان فرصتكم، لأولئك الذين يأكلون أعمارهم بالضغينة والشحناء: رمضان فرصة لأن تفرغ القلوب حمولتها من الضغائن وتستبدلها بالمحبة والتسامح والصفاء، لأولئك الذين قضوا شطراً من أعمارهم وهم أسرى لعاداتهم السيئة، فهم كل سنة يمنون أنفسهم بالخلاص منها: رمضان فرصة للحرية، لأولئك الذين أدمنوا الكلام والثرثرة زمناً طويلاً: رمضان فرصة لأن يتعلموا فن الصمت، لأولئك الذين قطعوا أرحامهم: رمضان فرصة للوصل والصفح، للذين تخلوا عن مسؤولياتهم الأسرية وتنكروا للماضي الجميل: رمضان فرصة لتجديد العهد ولم الشمل. رمضان فرصة للدعاة أن يبتعدوا عن هدير الجماهير، وأن يراجعوا مناهجهم ويفحصوا قناعاتهم. رمضان فرصة للسكينة الهاربة عن البيوت المليئة بالضجيج طوال العام أن تعود إليها وترفرف فوقها، لا تفوتوا هذه الفرصة، فالكثير من شهور هذا الموسم العظيم عبرت كغيرها لم تحدث أثرً كبيراً في حياتنا، جربوا هذه المرة أن تجعلوا «رمضان» هذه السنة مختلفاً عن كل «الرمضانات» التي قبله، تذكروا أن كل نجاح ضخم في الحياة لا بد أن يسبقه قرار خطير، وما الحياة الجميلة إلا مجموعة من القرارات الناجحة.
صوماً مقبولاً، وحياة رضية هانئة، وكل عام وأنتم بخير.
- جامعة القصيم
Khaled4321@gmail.com