منذ القديم احتلَّت الخيول الأصيلة - وما تزال- مكانةً سامية في تاريخنا العربي، وذلك بفضل أدوارها الحاسمة في الحروب والغزوات، وفي أيام السلم لما تتمتع به من صفات نبيلة ووفاء وعنفوان، ولقد حفل الشعر العربي بذكر فضائلها ومحاسنها وجودها وأمانتها الى جانب جمالها ومهابة حضورها الرشيق... فهناك الجواد والفرس والحصان، والمهر والكُمَيْت.. إلى آخر تلك السلسلة الذهبية من الأسماء التي تدل على التجليّات في النوع والشكل واللون وطبيعة الحركة، الى جانب بعض الخيول المميزة التي ارتبطت بفرسانها ولعبت أدواراً متفرِّدة خلدتها الأشعار والحكايا والروايات. ولقد بَرَعَ امرؤ القيس في وصفه عن الخيل وأبدع في رسم كل مزاياها في الشكل والدور والحضور حين قال:
«مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً...
كجلمود صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ
بمرور الزمن، وبرغم كل التبدلات والتطورّ في كل شيء، بَقيَتْ» الفروسيةّ» تحمل أسمى المعاني وأنبل الصفات، واستمرت كإحدى الرياضات المرموقة العالية في كل أنحاء العالم، وما زال الجواد العربي الأصيل وفروعه من أهم وأغلى الخيول على الاطلاق، ودائماً ما كانت توجد علاقة خاصة بين الخيل وفارسه، هي المزيج من الألفة والحنان والتعاطف، بل والحب الكبير من خلال لغةٍ بينهما تحمل كل إشارات ودلالات التواصل والوداد. وتكاد الخيول تكون من الحيوانات المُثلى التي دجَّنها الانسان منذ آلاف السنين لتكون الرفيقة والمساعدة والأنيسة ومدعاة للفخر والاعتزاز...
منذ أسابيع تمّنت امرأة انكليزية تدعى»شيلا مارش» وهي على فراش الموت في أحد مستشفيات «ويغان» شمال غرب انكلترا، احضار حصانها لوداعه والذي كانت تُقدم معه مشاهد استعراض للفروسية، وكانت قد قامت برعايته منذ كان مهراً صغيرا.
تَفَهّمت الادارة الطبيّة طلبها فأذنت بنقلها على سرير المستشفى من غرفتها الى مرآب السيارات التابع لمبنى المستشفى. وفي تصريح لهيئة الاذاعة البريطانية «بي بي سي». قالت ابنة السيدة المريضة عن الحصان المسّمى «برونوين» حين أَدخلوه الى المرآب وقادوه الى حيث وضعوا سرير الوالدة، حين تقّدم نحوها بهدوء ولمَسَ بأنفه أحد وجنتيها وكأنّه كان يعلم بأن هذا اللقاء هو الأخير.
أضافت الابنة أن أمّها أبْكَتْ كل الممرضات والعائلة التي حضر جميع أفرادها وتواجدوا حولها، موضحةً أن والدتها كانت الوحيدة التي لم تبكِ أو تذرف دمعة، لأنها كانت في غاية السعادة خلال تلك اللحظات المؤثرة المملوءة بالشجن والعاطفة والوداد... وبالكاد كانت تستطيع النطق والكلام، لكنها كانت قوية بما يكفي لتلفظ اسم الحصان «برونوين»، وتطلب منه قبلة، وكان الحصان النبيل يعرف تماماً ما تريده!!
توفيت السيدة الفارسة»شايلا «عن 77 عاماً»، وذلك بعد ساعات من لقائها الأخير مع حصانها الوفي، وظهرت صورة هذا اللقاء في المئات من الصحف البريطانية، وانتشرت على «توتير» في مختلف أنحاء العالم!
ننظر اليوم في زمن الردَّة والنكران والدواعش، حيث إن أرضنا هي منبت الخيول العربية الأصيلة بامتياز لنقول: هل ما زال سارياً في وجداننا بصيص ضوء من عنفوان ونبل ووفاء الخيل التي عُقِدَ الخير بنواصيها؟!
- د. غازي قهوجي
kahwaji.ghazi@yahoo.com