د. عبدالله أحمد حامد
ليس غريبا أن تمر مكة «شرفها الله» هذه الأيام بموجة من الحرارة تجاوزت الخمسين في المئة، فذاك حال «يونيوها» كل عام، وهو ما كنت أشعر بسمومه قبل أيام وأنا أزورها، مع كل احتياطات التكييف والتبريد التي لم تجد نفعا كثيراً! ليس الغريب هنا، لكن الغريب حقا أن ألتقي في إحدى مساحاتها الممتدة خارج البنيان، والتي تتجه نحوها المدنية لتحيلها إلى مخطط جديد! أقول إن الغريب أن ألتقي في هذه الأيام القائضة بأحد الرجال القلائل الذين رسموا لي الحنين إلى المكان بأجمل وأصدق ما يكون الحنين والوله والهيام، وإلى ما شئتم من الأوصاف وأفعال التفضيل.
لقد التقيت مصادفة برجل عليه سيماء القوة والنباهة والطيبة أيضا، يعيش في هذا الخلاء الممتد، بعيدا عن مكيفات الهواء، ومعلبات التبريد! لقيت العم «قشموع بن يعيش» وهو اسمه كما في بطاقته الوطنية واسمه هذا له من الإيحاءات والسيميائيات البدوية ما يمكن أن يستنزف مؤتمرا كاملا من مؤتمرات السيمياء التي بشر بها دوسوسير أتباعه وقراءه من قبل، هذه السيمياء البدوية جاء متلائمة ومتناغمة مع حياة العم «قشموع» الذي لم تزده ضراوة المكان المكي، واشتعاله بالحرارة والسموم، إلا حبا وتعلقا... بادرته بالسلام والسؤال، ثم امتد الحديث عن مكانه وصعوبة العيش فيه، وهذه النار التي كنت أشعر بها مع غروب الشمس قد اقترب، ولهيب الأرض قد خف! وهو يستغرب كلامي، ويؤكد لي أن متعته هنا لا تعادلها متع الدنيا، وأنه يعيش في هناءة وسعادة مع امتداد هذه المساحة أمامه، وبجوار أغنامه التي يرعاها، وأنه لا يريد الحياة في المدينة مهما كان حيث يعيش اثنان من أولاده، بل يفضل العيش هنا منفردا بعد أن انتقلت زوجته إلى رحمة الله...
قلت له مستغرباً: وهل ستصوم هنا أيضا؟ فنظر إلي سعيدا بذكر اقتراب دخول الشهر الفضيل، وقال مبتسما، وعينه تمتد نحو الأفق في هناءة طمأنينة وراحة بال، أقسم أنه يحسده عليها رجال الأعمال، وجامع رؤوس الأموال من الحلال والحرام: نعم سأصوم هنا، وعسى الله أن يبلغنا رمضان... قلت مستاء: ومن سيجهز طعامك ؟ قال بفرح متناه: أنا، هذه عزبتي، وأشار إلى مجموعة من الأواني القليلة البسيطة!!!
دخلت له مدخلا آخر، وقلت له: عم قشموع: أحد رجال الأعمال الطيبين سيتبرع لك بغرفة في فندق فخم حول الحرم ؛ لتصوم فيه، وهو لا يريد من ذلك سوى دعواتك له بالخير، فتجهز في الغد لترى المكان الجميل الرائع الذي ستصوم فيه إن شاء الله... فقال لي: ما أبغى إلا مكاني... أنا بدوي يا ولدي... بدوي... قلت: كلنا بدو، وقد عشنا في المدن، ووجدناها أفضل... قال لي: لا، وكررها مرارا...
جاءت محاولتي الثالثة عبر «المرأة» ؛ مستذكرا مكانتها في حياة الرجل... وبادرته بالقول: ألا تحتاج إلى امرأة تؤنسك هنا، وتؤنسها؟ قال لي مباشرة: والله ودي يا ولدي، لكن ما حصلت من ترضى، لكن إذا وجدت أنت واحدة ترضى فأنا أبغى والله... قلت «في نفسي»: ومن تطيق هذا يا أبا يعيش! ومن تطيق! مواصفاتك لم أجدها إلا في ميسون بنت بحدل وهي القائلة بعد أن زفت لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحبّ إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني
أحبّ إليّ من لبس الشفوف
لكنها ماتت منذ زمن بعيد! ولله درك يا عم قشموع فكم كنت أمر بهذه الأبيات أثناء دراستي الجامعية فأعلن الإعجاب بها ظاهرا، وأكتم في نفسي تساؤلات حول إمكانية الاطمئنان إلى صحتها! لتأتي يا عم قشموع بعد 1400 سنة لتؤكد لي أن العشق يصنع ذاك وأكثر! وأن الحب بين الإنسان والمكان فلسفة غائرة في أعماق النفس الإنسانية لا يعلم مداها إلا الله...
نظرت إليه مليا، وإلى عشته التي تخفق فيها الأرواح كما خفقت في بيت جدته ميسون من قبل! ثم ودعته وأنا أقول، وأعيد القول في نفسي: ترى من يعيش الحياة الأجمل ؟ بل: من وجد الحياة الحقيقية؟ نحن، أم هو؟